في موضوع الحوار

أوّلا:

ليس فيما سنقوله في موضوع الحوار مزايدة على أيّة جهة ولا جذريةً طارئة بقدرما هو تعبير عن الموقف الأدنى الذي لا يمكن النزول تحته في مواجهة انقلاب عنيف على الدستور والديمقراطية. انقلاب بادر إلى تمزيق دستور الثورة وتعويضه بأمر 117 الانقلابي، وتفكيك كلّ ما بُني من مؤسسات ديمقراطية منتخبة في الدولة والمجتمع.

ثانيا:

الانقلاب هو احتلال داخلي لا يختلف في أسلوبه ونتائجه عن الاستعمار باعتباره احتلالا خارجيا. وكلّ الانقلابات لا تكون إلاّ مدعومة من الخارج في مواجهة نظام سلطوي يجد مشروعيته وأسباب استمراره في دعم جهة خارجية أخرى، أو هو في مواجهة نظام ديمقراطي (أو في وضع انتقال إلى الديمقراطية) قائم على الاختيار الشعبي الحر والفصل بين السلطات واستقلال القضاء واحترام حرية الانتظام والمعتقد والضمير.

ولذلك اتفقت القوانين الدولية ومواثيق حقوق الإنسان العالمية على مشروعية مقاومة الانقلاب على النظم الديمقراطية والانتصار لضحاياه ودعمهم في استعادة حريّتهم وما أجمعوا عليه من اختيار حر.

ثالثا :

فعل الانقلاب ، ونموذجه انقلاب 25 جويلية، لا يترك أمام أنصار الدستور والديمقراطية إلا سبيلا واحدا هو المقاومة المدنية المواطنية. بل إنّ في الاكتفاء بمعارضته بالدفاع عن حريات انتهكت وحقوق صودرت (دون ربط كل ذلك بالسبب الأصلي وهو الانقلاب) تسليمًا له بمشروعيّته وخسارةً نصف المعركة السياسية قبل نهايتها.

فكيف بالحديث عن الحوار ودعوة المنقلب إليه، واستنكار رفضه إيّاه في عبارة سياسية تائهة لا تصل بين السبب الأصلي(الانقلاب) ونتائجه (استهداف المؤسسات والحريات)؟

الانقلاب، كل انقلاب، يقاوم ولا يعارض.

رابعا:

لا يعني ما تقدّم رفضا لمبدأ للحوار. فهو صورة من بنية الفكر السياسي لكلّ قوّة ديمقراطية. والحوار - رفضا وقبولا - جزء لا يتجزّأ من رؤيتها السياسية وخطّتها في الفعل السياسي ومنه مواجهة الانقلاب.

من ناحية أولى فإنّه لا حضور لفكرة الحوار عند الانقلاب - كل انقلاب - وإلاّ لما كان هناك انقلاب أصلا. وكان هذا واضحا في سياقنا السياسي حتّى قبل 25 . فقد كانت "سياسة التعطيل والترذيل" وتعفين المشهد بالشراكة مع الفاشية والوظيفية شاهدا على انتفاء فكرة الحوار عند الجهة المنقلبة.

ومن ناحية ثانية فإنّ رفض الحوار عند المنقلب لم يكن نتيجة تقدير سياسي وموقف منه مبدئي من قوى سياسية بعينها. ولا هو نتيجة ضعف الثقافة الديمقراطية عنده…

"رفْض الحوار" عنده نتيجة لبنية ذهنية وسياسية لا يوجد فيها شيء اسمه حوار. وهذا واضح - ليس في مواجهته المفتوحة مع الشارع الديمقراطي فحسب - وإنّما أيضا في علاقته بمن ساندوه وناشدوه وراهنوا على "لحظة 25" لإعادة بناء المشهد السياسي على أنقاض المسار الديمقراطي. وكان هذا مطلب المنظومة القديمة وسيستامها وكلّ روافده في المال والأعمال والإدارة منذ سقوط نظام بن علي في 2011.

خامسا:

كيف يصاغ موضوع الحوار عند من تبنّى مهمة "إسقاط الانقلاب وإعداد البديل الديمقراطي" بمرجعية دستور الثورة ومؤسساته الديمقراطية المنتخبة؟

ستكون الإجابة عن هذا السؤال في جملة من المحددات نراها فيما يلي:

- الدعوة إلى الحوار تكون موجهة إلى المدافعين عن الدستور والديمقراطية وأهداف ثورة الحرية والكرامة وما راكمته من مكاسب ديمقراطية استهدفها الانقلاب، دون سواهم. فهم شرط إنقاذ البلاد.

- لا حوار تحت سقف الانقلاب، وإذا ما كانت منه دعوة أو من أية جهة تمثله إلى الحوار فإنّ الاستجابة تكون مشروطة بتراجعه الفوري عن كل الإجراءات الاستثنائية. دون أن يُسقط تراجعه مبدأ المحاسبة عن كلّ ما ترتب عن الانقلاب. فهو من باب "الحق العام" المتجاوز لإرادات الأفراد والقوى السياسية والمنظماتية. وهو موضوع ما يسمى عدالة انتقالية.

- الربط بين السبب (الانقلاب) والنتيجة ( كل آثاره المدمرة ) لحظة وعي مهمة بدأت تتبلور عند عديد القوى. وحتى من ركز من هذه القوى على إسقاط الاستفتاء انتهى إلى أنّ هذه المهمة لا يمكن أن تنفصل عن مهمة إسقاط الانقلاب. فهي تفصيل منها.

سادسا:

هذا بدأ يتبلور في المشهد السياسي نتيجة عشر أشهر من استنهاض المشهد الحزبي المنهك والمنظماتي التائه من قبل "مواطنون ضد الانقلاب"، وكانت آثاره قوية على المشهد السيلسي ونرى أثره أخيرا عند الخماسي رغم اختلاف مكوناته، وهو نتيجة طبيعية لتوسع"وعي الانقلاب"، ومن الغريب ألاّ يحضر بالوضوح المطلوب عند جبهة الخلاص الوطني وريثة الكفاح المواطني ومنجزاته السياسية وضريبته النضالية (موقوفون، سجناء، وشهداء).

وهي لمّا تبنّت في خطابها السياسي مهمة إسقاط الانقلاب وإنقاذ البلاد فإنها أولى بأن تجعل من الحوار (إذا ما طُرح ) مشروطا بالتراجع عن الانقلاب ومقدّمة لاستعادة المسار الديمقراطي ومؤسساته الشرعية تحت سقف دستور 2014…

هذه هوية الجبهة ومضمون خطابها .

إلى شارعها الديمقراطي وإلى سائر فئات الشعب وإلى القوى المعنية إقليميا ودوليا المعنية بمصالحها وشراكاتها مع تونس.

أمّا الحديث المرسل عن حوار إدماجي في الهواء، وعن الاستعداد لحوار مع الانقلاب خارج ما أفصحت عنه من رؤية سياسية وهي تعلن عن نفسها فهو أول الوهن السياسي.

تبدو المفارقة صارخة بين أن ينتهي من انطلق من مهمة إسقاط الاستفتاء إلى مهمة إسقاط الانقلاب، وبين أن ينتهي من انطلق من مهمة إسقاط الانقلاب إلى خطاب مرتبك في موضوع الحوار وفيما يجب أن يكون من خطوات قادمة.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات