إضراب عام تحت سقف الانقلاب: إلى المُحتمين بدستور الثورة والساكتين عن تمزيقه.

الإضراب في مطلق الأحوال حقّ نقابي يكفله القانون والدستور وحقوق الإنسان، بقطع النظر عن السياق الذي يتمّ فيه.

1

والإضراب العام الذي نفّذه الاتحاد العام التونسي للشغل اليوم 16 جوان 2022، يجري بمرجعيّة دستور الثورة. ولو تعرّض المضربون والقيادة النقابية، لا قدّر الله، إلى المساءلة القانونية من قبل سلطة الانقلاب فإنّ "المتّهمين" سيحتمون بدستور 2014 الذي يكفل الحق الكامل في الإضراب دون وجود عبارة "في حدود القانون". وهي العبارة التي قيل إنّها مترددة بقوة في "دستور الجمهورية الجديدة" على خلفية ما رشح من تسريبات من غير مصدرها الأصلي "الله وسيدي بلحسن" راعِيَيْ دستور الانقلاب حسب سي الصادق.

هو إضراب يكفله عمليا دستور الثورة ولكنه موجّه إلى هذا الدستور نفسه ومتنزّل في سياق استهدافه واستكمال إجراءات شطبه. فالقيادة النقابية القائمة على إضراب اليوم ساندت الانقلاب وإبطال دستور الثورة وكل ما بني من مؤسسات ديمقراطية تحت سقفه. واعتبرت 25 لحظة وطنية يمكن البناء عليها. ولها موقف مبدئي مساند للدستور المرتقب والذي يلغي الحق النقابي إلا ما كان من تحفّظات جانبية خجولة من نائب الأمين العام والناطق الرسمي باسم الاتحاد .لذلك لا يمكن أن يفهم الإضراب إلاّ على أنّه "تدافع" (بالمعنى المباشر للعبارة) تحت سقف 25 الانقلابي. وتحسين ظروف التفاوض مع الانقلاب من أجل موقع هامشي ذليل تحت سقف الانقلاب ونظامه السلطوي الشاذ بديلا عن دور طبيعي في ظل نظام ديمقراطي اختاره الناس وأجمعوا عليه في 2014 .

2

ولكن السؤال الأهمّ هو هل من معنى لمساندة الإضراب أو مناهضته في سياقنا الحالي؟ وهل يوجد مكان لموقف يخرج عن المساندة والمناهضة؟

من ناهض الإضراب هي مجاميع حشدية مجهولة الهوية والتاريخ وبعض من لوبيات القديم وأذرعها الإعلامية ولواحقها الوظيفية من شبيحة وبوليس سياسي وجدت في الانقلاب بغيتها. وهو في نهاية الأمر تتويج لمحاولاتها الانقلاب على الثورة والديمقراطية والدستور التي تُوّجت بـ25 الآثم. وترى هذه المجاميع في الإضراب تهديدا بعودة الديمقراطية دون أن يكون لها الشجاعة السياسية لتعبّر عن هذه الحقيقة فتعوّض عبارة الديمقراطية بالنهضة، ولكنها تقرّ من حيث لا تعلم أنّ النهضة من أهمّ شروط بناء الديمقراطية. وسيفسح شطبها الطريق أمام دكتاتورية ولا أبشع تثابر على الثأر لنظام بن علي من الثورة ومسارها في بناء الديمقراطي.

وأمّا المساندون للإضراب فهم مجاميع أخرى راهنت على موقف ثالث بين الانقلاب والشارع الديمقراطي. وقد كان الموقف الأول لمعظمهم (استثناء العمال والجمهوري) هو المساندة للانقلاب، ومنهم من حرّض عليه وهيّأ له شروطه بوضع اليد مع الفاشية تنفيذا لسياسة "التعطيل والترذيل".

هؤلاء وكانوا أول المتصدّين للشارع الديمقراطي بقيادة مواطنون ضد الانقلاب. ويومها برروا هذا الموقف بأن كل مواجهة للانقلاب تصب في مصلحة حركة النهضة. ولكنهم "راجعوا" موقفهم بعد الأمر الانقلابي 117، ووصفوا 25 بالانقلاب - والنهضة ماتزال على قيد الحياة وهي لا تخفي دعمها للشارع الديمقراطي . ثمّ إنهم لم يلتزموا بما يمليه موقفهم الملتحق بمناهضة الانقلاب بسبب تمسكهم بموقف انعزالي رافض لكلّ عملية تجبيه حتى وإن كانت النهضة مجرّد مساند موضوعي لها.

3

هذه الجهات المختلفة والمجتمعة في الخماسي تعلن اليوم مساندتها للإضراب متوقفة عند تحميل حكومة قيس سعيّد كامل المسؤولية عن تدهور الأوضاع المعيشية وإدانة إصرارها على رفع الدعم وتجميد الأجور ووقف الانتداب، واستنكارها حملات التشهير والتخوين ضد الاتحاد، وتدعوها إلى سحب المنشور 20، وتستنكر تصريحات هيئة الانتخابات المنصّبة…وتفاصيل أخرى لا تقل أهميّة. إلاّ أنّ اللافت في هذا البيان فقرته الأخيرة الداعية إلى مقاطعة الاستفتاء باعتباره " حلقة من حلقات الانقلاب على المسار الثوري والدستور والمكاسب الديمقراطية للشعب التونسي ".

هذه الفقرة ترفع الخماسي، بالرغم عنه، إلى مستوى السقف الذي أقامته جبهة الخلاص الوطني، إن لم نقل بأنّه صار من سقفها. والخماسي بتذكيره بمرجعية دستور الثورة وما تحقّق من مكاسب ديمقراطية في مساندته للاتحاد يجرّ منطقيا حدث الإضراب ليكون جزءا من مواجهة الانقلاب.

وهذا هو الموقف الضمني لجبهة الخلاص الوطني، رغم أنّها، في تقديرنا، غير معنيّة بأن تعلنه في بيان. لأنّ ما طرحته من مهمة استكمال إسقاط الانقلاب وإعداد البديل الديمقراطي تعفيها من فتح المفتوح والإفصاح عن موقف ينطق به فعلها.

موقف الجبهة يخرج عن سرديّتي "اتحاد حشّاد" و"اتحاد الخراب" المشروختين، ليربط كل تفاعلات المشهد بمهمة إسقاط الانقلاب واستعادة الديمقراطية ومؤسساتها وإعادة بناء تونس المهشّمة.

4

استحضار مرجعية دستور الثورة وما ارتبط به من مكاسب يلغي تباينات كانت واضحة بين مكونات الخماسي في علاقة بالدستور في مرحلة دقيقة يراد فيها قبره وفرض دستور قيس سعيد مكانه.

وفي هذا الصدد يتميّز موقف الجمهوري بمناهضته الانقلاب منذ لحظته الأولى وتمسكه القوي بدستور الثورة. وهو ما يثير التساؤل عن السبب الذي يجعله خارج جبهة الخلاص الوطني. وهذا ليس من أماني أهل الجبهة بقدرما هو وقوف على مفارقة يعيشها الجمهوري بين موقفه وموقعه. ولم يبق للجمهوري من مبرر إلاّ ما يقيمه مجاملةً في غير محلّها لشركائه من الخماسي من تماثل بين 24 و25.

ولقد كان مما أنجزه الشارع الديمقراطي الظافر في مساره الكفاحي المواطني الفذّ بقيادة مواطنون ضد الانقلاب أنْ دحض سردية الانقلاب ورسّخ حقيقة الصراع (انقلاب/ديمقراطية)، فأسقط بذلك أكذوبة المسار التصحيحي، وبين أنّ منتهى التهافت السياسي في المماثلة بين "الخطأ تحت سقف الديمقراطية" (24) و"خطيئة هدم الديمقراطية وتصفية مؤسساتها" (25).

وذهب الشارع الديمقراطي بالإشكالية بعيدا حين اعتبر أنّ "هاجس العودة إلى 24" تعلّة واهية، لأنّه لم يبق من 24 إلاّ "الدستور والمكاسب الدستورية" بعبارة بيان الخماسي نفسه، وأنّ 24 صار من الماضي المستحيل استعادته. وحتى النهضة المتهمة بالمسؤولية الكاملة عن 24 تعتبره كذلك، وصارت أجْرأ عليه من خصومه المشاركين فيه رغم إنكارهم الساذج دون أن تتفصّى من تحملها جزءا من المسؤلية.

5

وأمّا آثاره من جهة المسؤولية عن تدهور المسار الديمقراطي وما عرفه من عبث بالمال العام ومن عجز عن تحقيق الأهداف في العدل والتنمية وكان من جرائم سياسيّة…الخ فإنّه لا مجال للمحاسبة السياسية والقانونية بشأنها إلاّ بانتخابات حرة، ونزيهة، وبقضاء مستقل وناجز. ونعتبر كل الفاعلين مشمولين بهذا رغم اختلاف المسؤوليات.

وهذا الهدف الذي يحرص كثيرون عليه، لن يتحقق إلاّ باستعادة الديمقراطية ومؤسساتها. وهو هدف غير منفصل عن مهمة إسقاط الانقلاب. وإلاّ فإنّ غاية التخويف من العودة إلى 24 في لحظة مقاومة الانقلاب لا يمكن أن تكون إلاّ إسنادا للانقلاب وتطبيعا معه وفتحا لمجال تصفية الخصوم السياسيين في ظل دكتاتورية فظيعة تمسك بكل السلطات وأهمها السلطة القضائية. وهي لن تُبقي، إلى جانبها، بعد شطب الخصوم أحدا بمن في ذلك من ساعدها على فرض نموذجها.

خصصت الحزب الجمهوري بالتوجه لموقفه المناهض بقوة للانقلاب والمتمسك بدستور الثورة. وبقية الخماسي معنيون أيضا بما توجّت به وإن كانت علاقتهم بالدستور لا ترتقي إلى موقف الجمهوري. وهذه نقطة خلاف بارزة ومهمة في مستقبل الخماسي.

هذا انطباع حاصل عندنا، لاحظناه في خطاب العمّال والتيار، وإن كان انطباعنا غير دقيق فلْيُوضِّحوا موقفهم من الدستور والديمقراطية. وإذا كان هذا الموقف الوارد بالبيان هو أنّ الخماسي متشبث بدستور الثورة (موضوع تنقيحه وتطويره يأتي في درجة ثانية) لم يعد لحديثنا عن الغموض من معنى. مع أملنا في أن نرى لموقع الدستور الحضور الذي يليق به في خطاب هذه الجهات الحزبية في معركة أساسها استهداف الدستور والدولة.

وأمّا التعلل بعودة 24 الآفل فإنه لا يخرج عن لوك "لوبانة مرّة" ليس أمر منها إلا نتيجتها: التطبيع مع الانقلاب والاستسلام لوظيفية مستحكمة هي أشبه بـ"النقل لحساب الغير"، محليّا ودوليّا .

وهذا قد يسمح بأن ننتظر اتساع جبهة الدفاع عن الدستور والديمقراطية وإن اختلفت السقوف. فالمعركة الحقيقية اليوم هي معركة الدستور والديمقراطية، وشرعية المؤسسات ،وفاءً للشهداء والثورة.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات