تعليق متأخّر: قرأتُ مقال حمّادي الرديسي

Photo

قرأتُ مقال حمّادي الرديسي في نسخته الأصليّة (النص الفرنسي)، ولكن بواسطة من ثلاث مقدّمات (نصوص) لم يكن بإمكاني التخلّص منها:

أ - ما ارتسم عندي من صورة عن حمّادي الرديسي باعتباره أحد مؤسسي التيار الوطني الديمقراطي، وأحد الذين غادروا مجالهم الكفاحي من نخب "اليسار" ليلتحقوا بكل ما يضعف خصمهم الإيديولوجي التاريخي باسم حداثة منتحلة وخطاب أكاديمي مدخول لا يتحرّج من دعم الاستبداد.

ب - الموقع الذي نشر به المقال: بزنس نيوز. وهو الموقع الذي لم يكن له من الإعلام إلاّ "البزنس" مقابل تبييض لوبيات المال السياسي الفاسد ومراكز قوى القديم المناهض للحريّة وبناء المواطنة بعد 2011.

ج - مقال/نص الصديق عبد الحق حول مقال حمادي الرديسي. وفيه ترجمة وعرض وموقف وجهد يشكر عليه الشكر الجزيل.

هذه النصوص الثلاثة مضافا إليها تعاليق بعض الأصدقاء الناقدة دخلت بها إلى نص الرديسي. وفي ذهني أنّني لن أبتعد كثيرا عن المواقف المذكورة وأنّ اختلافي عنها سيكون في الدرجة في أقصى الحالات. ولكنّي مع الانتهاء من قراءة النص لم أجد في نفسي ما توقّعته. فأعدتُ القراءة واستنجدتُ هذه المرة بالمعجم طلبا لدقّة التمثّل. وكان أن خلُصتُ إلى ما يلي:

1 - لم أجد في النصّ سِبَابًا.

ولم يذكر الرديسي إلاّ ما في الرئيس قيس سعيّد، وبدقّة لم يُسبق إليها. هذا جوهر ما خرجتُ به من القراءة. قد يكون كلام الرديسي من الهجو السياسي والفكري. والهجو غير السِّباب.

فالهَجْو كما هو من "الفن"، ومن الفنّ الصعب. والسباب من العجز عن إتيانه. وكثيرا ما يكون مع العجز انزلاق إلى ذكر المعايب الخلْقيّة. وإنّه لا يخلو هجْوٌ من تعال وعجب (عنصر فنّي مطلوب).

وقد يعمد الهاجي إلى تضخيم مثالب مهجوّه ويغطّي على تحامله ومبالغاته بقوّة الصياغة الفنيّة. ولكنّ الرديسي لم يفعل ذلك ولم يذكر قيس سعيّد إلاّ بما فيه. ومنتهى ما ذكره صفة التحيّل.

فلم يترك قيس سعيّد فصلا من فصول الدستور يخصّ مهام رئيس الجمهوريّة إلا وتحيّل عليه. وفيما يأتيه اليوم خروج شامل وخرق فاضح لصريح الدستور لا يبرّره تخاذل الأحزاب وعجزها ومآزق المشهد السياسي. وما لم يقله الرديسي أنّ سعيّد مثّل مع الفاشيّة تهديدا صريحا (نصا وممارسة) لمسار بناء الديمقراطيّة من خارج المرجعية الديمقراطيّة ولكنّه من داخل مؤسسات الدولة وبأدواتها وقد كان الوصول إلى رأس هذه المؤسسات بوسائل الديمقراطيّة ومنظومتها المرفوضتين من سعيّد وعبير.

2 - وجدتُ النصّ من أعمق وأدق ما كُتِب

في قيس سعيّد. وهو من النصوص القليلة التي تخطّت "الشخص" إلى "ظاهرة قيس سعيّد" باعتبارها الشخصيّة السياسيّة التي توفّرت فيها جملة من مقوّمات "الشخصيّة الشعبويّة". وقد أمكن لصاحب النص توظيف "ثقافته السياسيّة (اختصاص علوم سياسيّة) فمّكنته من ضبط دقيق لبروفيل قيس سعيّد من خلال تاريخه ومنزلته العلمية وخطابه وأدائه منذ انتخابه.

وكان التركيز على "فراغ الخطاب" ومخالفته للمقام سواء كان المقام مؤسسة رئاسة الجمهوريّة أو بعض المناسبات بعينها، ومنها خطاب أداء الحكومة للقسم حين لم يتمالك رئيس الجمهوريّة عن إخفاء صورته، صورة "الخاسر السيّء" لمّا شعُر بأنّ "حكومته" افتُكّت منه فأساء إلى نفسه وإلى مقام الكلمة: كان مطلوبا شحذ العزائم لمواجهة الأزمة المركّبة، ولكنّه اختار لغة التخوين والتهديد، والويل والثبور وعظائم الأمور. وهو في تقديري لا يتقن غير هذا (المؤامرة مكوّن بنيوي في خطابه لذلك لا يمكنه ألاّ يتحدّث عنها).

3 - قياسا إلى منحدر الرديسي الإيديولوجي والسياسي،

وقياسا على مواقف من يشترك معه في المرجعية الفكريّة والسياسية بمعناها العام كان منتظرا ألاّ يصل نص الرديسي في نقده لسعيّد إلى هذا المستوى من الجذريّة. ونستحضر هنا مناشدة حمّادي بن جاء بالله قيس سعيّد بعد تولّيه الرئاسة، وهو من كان نعته بالدوعشة في الدور الاول من الانتخابات الرئاسيّة، وكذلك موقف الاستاذ محمد محجوب الذي زاد على حمّادي بالدعوة إلى الاصطفاف وراء الفاشيّة في مواجهة "الخطر النهضوي" في تدوينة شهيرة له. وهناك مواقف أخرى أشد غلوّا وتطرّفا في الانتصار المفاجئ لقيس سعيّد وهو انتصار لاستبداد مأمول والتعلّق بكلّ ما يعجّل به ويسنده ويمنع تواصل مسار بناء الديمقراطيّة المتعثّر.

حمّادي الرديسي يعلم كلّ هذه التوازنات وهو أستاذ العلوم السياسيّة وتخصّصه في الاسلاميات والإسلام السياسي وموقفه السياسي الجذري منه. ومع ذلك لم يذكر شيئا من هذا وهو يعرف من هي الجهة السياسيّة "المستفيدة" من نقده. ولم يخرج عن نقد الرئيس قيس سعيّد في علاقة بقيم الجمهوريّة والثقافة الديمقراطيّة ومناهضة استبداد الفرد والمؤسسة.

لا يعنينا البتة من المستفيد من نقد سعيّد في نص حمادي الرديسي. ما يعنينا من كل هذا هو العلاقة بالديمقراطيّة وإسنادها والوعي بمسارها. ويمكن أن نلمح بعضا من مؤشراته كل هذا في المشهد السياسي سريع التحوّل، رغم عمق الأزمة وتركيبها.

ومن هذه المؤشرات معركة الحكومة ومسألة منحها الثقة من البرلمان، فقد كشفت عن "عقل" المؤسسة البرلمانية، فدافعت كتل/قوى ديمقراطيّة مختلفة عن الديمقراطيّة المستهدفة وعن النظام السياسي ومؤسسته الأصليّة وعن المنظومة الحزبية في مواجهة استهدافها من قبل رئيس الجمهوريّة، وكأنّها تنتبه من سكوتها عن استهداف الفاشيّة لمؤسسة البرلمان بتعطيل أشغالها.

هذا ما جعل حكومة المشيشي تنطلق "حكومة رئيس" (كفاءات "مستقلّة") وتنتهي يوم منح الثقة حكومة سياسيّة بحزام برلماني معلوم (في غضب الرئيس في خطاب تأدية الحكومة القسم إحساس بأن الحكومة افتُكّت منه).

4 - ما قاله حمادي الرديسي

قد يكون منطلقه أسبابا شخصيّة جدّا لا نعرفها وربما تافهة أكثر من المتوقّع، ومع ذلك هي لا تخرج في تقديرنا عن هذا "الروح العام" و "العقل السياسي" الذي يتشكل تحت سقف الحريّة المعمّدة وفي ظل منظومة ديمقراطيّة بمرجعية دستور 2014…وهو روح وعقل يتجاوز إرادة الأفراد ليعبّر عن إرادة جماعية تتمحّض تدريجيا في ظل أزمات هيكلية حادّة.

ما قاله الرديسي يمكن وضعه ضمن ما بدأ يتوضّح من خلال بروز ثلاثي يكاد يكثّف الصراع في مشهدنا: الديمقراطيّة، الشعبوية والفاشية. وهو ثلاثي إجرائي قد يغنينا قريبا عن ثنائيات سابقة (قديم/جديد، ثورة /ثورة مضادّة) فقدت إجرائيتها المطلوبة ولم تعد قادرة على تغطية كل المساحة السياسيّة، أمام التغيرات السريعة في المواقف والمواقع.

ويمكن أن نلخّص المشهد الحالي في توتّر القوى الديمقراطيّة بين الفاشيّة والشعبوية، فمنها من مازال يعتبر استهداف الديمقراطيّة وجهة نظر. ونراه في ارتباك عديدين في معركة الحكومة الأخيرة. فبعض المكونات الحزبيّة صوّتت ضد منح الحكومة الثقة ولكنها اليوم وإلى كتلة برلمانية ثانية تسند الحكومة وموازية ومنافسة الكتلة الأولى التي منحت الحكومة الثقة. فكأننا أمام حكومة بلا معارضة في نظام ديمقراطي شبه برلماني. وهي حكومة محظوظة تمتّعت بمشاورات حولها بعد منحها الثقة بخلاف كل حكومات الدنيا، وقد تتمتع بإسناد كتلتين برلمانيتين متعارضتين كل منهما تنشد ودّها!!

مع الوقت ستتوضّح الحدود وتضبط العلاقات وتُتبيّن المآلات… وجدتُ كلام الرديسي لا يخرج عن هذا وإن خالفني هو نفسه في هذا التأويل.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات