"سقط الانقلاب ولم يرحل…"

في سياق الحديث عن المأزق الذي وضع فيه الانقلاب البلاد، سئل الأستاذ المؤسس عز الدين الحزڤي حول الأسباب التي تُبقي على انقلاب 25 جويلية رغم اجتماع كلّ شروط سقوطه؟!! فكانت إجابته: سقط الانقلاب ولم يرحل.

ولقد جاءت إجابته في صياغة شديدة التكثيف لم يعترضنا ما يضاهيها في دقتها وشمولها وفي طابعها الإشكالي وفي تغطيتها المشهد الحالي بكل مفرداته. وهي بذلك تشير إلى حالة توازن الضعف بين الانقلاب من ناحية والحركة الديمقراطية (وهي القوة السياسية المدنية المتمسكة باستعادة الديمقراطية) والمعارضة (ونعني بها سائر من عارض الانقلاب لدوافع ليس من بينها دافع استعادة الديمقراطية)، من ناحية أخرى.

وتشير هذه الجملة السياسية الجديدة إلى حقيقة موضوعية، فـ"الشعب الذي لم يخرج مهللا للانقلاب على الديمقراطية (مثلما ادّعى الإعلام النوفمبري وروّج في كل وسائل إعلامه) لم يخرج، في المقابل، مدافعا عن الديمقراطية.

مثلما تشير الجملة إلى وضع سياسي يتجه إلى تعقيد أكثر وتركيب أشد قبل الانفراج. فلا الانقلاب خرج إلى "ما بعد الانقلاب". وهو يدرك المفارقة القاسية التي يعيشها من خلال علاقة التناسب بين اللهفة على جمع كل السلطات وتفاقم العجز، فكلما جمع سلطات أكثر زاد عجزه. وهو عجز يشهد عليه "تخبطه في لحظة الانقلاب" وفشله في الخروج إلى ما بعدها، وتحويله الأزمة المالية الاقتصادية الموروثة إلى نكبة وطنية.

ولا الحركة الديمقراطية استطاعت إزاحة الانقلاب واستعادة الديمقراطية، بعد مرحلة كفاح ميداني كسرت الصمت المخيم على المشهد على مدى 52 يوما من الانقلاب، ودافعت عن الديمقراطية المرذّلة في مناخ سياسي كان فيه الإقناع بالتطبيع مع الكيان الغاصب أيسر من الإقناع بمصداقية الدفاع عن الديمقراطية المغدورة، بعبارة الأستاذ الأمين البوعزيزي.

تهاوي سردية التصحيح

لا معنى للسقوط غير سقوط العنوان الكبير "تصحيح المسار". وقد تمّ هذا على مدى سنتين بتهاوي سرديات الانقلاب تباعا، وقد كان سقوط "سردية التفويض الشعبي" مدويا في مواجهة الشارع الديمقراطي الذي بقي شارع نخبة يتحفّز إلى كسر الطوق الذي ضرب حوله كلّما همّ بتحويل الوقفات إلى حركة باتجاه المؤسسة الأصلية (14 نوفمبر 2021) أو إلى انفتاح على الشارع الاجتماعي (مظاهرة 14 جانفي 2022 التاريخيّة ).

ثم كان سقوط "سردية التفويض الانتخابي" بالتجاهل شبه المطلق الذي ووجهت به المناسبات التي دعي فيها الناس إلى التصويت (الاستمارة، الاستفتاء، الانتخابات بدورتيها) ، فكانت نسب المشاركة التي تراوحت بين 5% و11%، حسب الجهات الرسمية المشكوك في نزاهتها، مبررا كافيا للتراجع والتنحي، فقد "قال الشعب ما يريد قوله". ولم تكن الحركة الديمقراطية، رغم جهدها وجهد سائر المعارضة في دفع الناس إلى المقاطعة، تعتبر المقاطعة الواسعة انتصارا للديمقراطية بقدرما رأت فيها مؤشرا على توجس عام من العملية الانتخابية تحت تأثير العشرية وخيباتها، من ناحية، وعدم الثقة في "جديد شعبوي" لا يتقن غير الهدم، من ناحية أهرى.

لذلك لم يبق أمام الانقلاب في مواجهة عجزه سوى الهروب إلى سردية "التآمر على أمن الدولة"، ونظرية المؤامرة مكوّن بنيوي في الرؤية الشعبوية. وقد عرفت تطبيقها الأول باستهداف المؤسسة القضائية مقدمةً إلى تنفيذ اعتقالات واسعة في صفوف قيادات الحركة الديمقراطية استنادا إلى ملفات شهد الجميع بتفاهتها وخلوّها من كل دليل اتهام إلاّ تهمة الدفاع عن الديمقراطية التي تشهرها الحركة الديمقراطية وتصدح بها. ولئن خصّت الاعتقالات رموز الحركة الديمقراطية فقد عمّت، بعد المرسوم 54 سيّء الذكر، سائر المدافعين عن الحقوق والحريات والرأي الحر.

وضع مريح

ويقابل سرديات الانقلاب الثلاث مراحل ثلاث عرفتها الحركة الديمقراطية، فكانت مرحلة الكفاح الميداني (ومنجزها ميلاد الشارع الديمقراطي وإسقاط سردية التفويض الشعبي)، ومرحلة بناء الشرط السياسي بتشكيل الجبهة (ومنجَزُها إسقاط سردية التفويض الانتخابي).

والمرحلة الثالثة، وهي المرحلة الحالية، وتقوم على مواجهة بين "سردية التآمر على أمن الدولة" وعنوان "الإعداد والاستعداد" الذي ترفعه الحركة الديمقراطية المصرّة على استعادة الديمقراطية أفقًا وحيدا لإنقاذ البلاد والخروج من الأزمة. فنحن أمام حالة توازن ضعف بين الجهتين. ولكن بفارق مهمّ وهو أن سلطة الأمر الواقع بنفوذها المطلق وأجهزتها اللينة منها والصلبة تتحمّل كل المسؤولية عن البلاد والعباد، وهي تحمل بين كفيها جمر الأزمة المتفاقمة. ولذلك نراها تهرب من حقيقة عجزها لتلقي بفشلها الذريع على "العشرية" التي تحالف فيها الخونة مع اللصوص لـ"ينهبوا مليارات المليارات من أموال الشعب".

في المقابل تبدو الحركة الديمقراطية في وضع مريح جدا في هذه المرحلة مرحلة الإعداد والاستعداد، وليس مطلوبا منها بعد أن خاضت تجربة الشارع وبنت شرطها السياسي، لا التعبئة ولا التصعيد.

بقدرما هي مدعوة إلى إدامة اشتباكها مع سلطة الأمر الواقع بعنوان استعادة الديمقراطية. وإنّ ما تقيمه من وقفات عز وشرف بشارع الثورة وندوات ونقاط إعلامية ودفاع عن الحريات على قدر كبير من الأهمية، وتمثل معركة القضاء أهمّ نقاط الاشتباك. ومع ذلك يؤخذ على الحركة أنها لم تكن في مستوى معركة القضاء. وهي ليست مدعوة لتحل محلّ القضاة ومنظماتهم، ولكن غياب الربط المحكم بين الدفاع عن مبدأ استقلالية القضاء وهدف استعادة الديمقراطية حال دون تحويل ملف القاضي الشريف البشير العكرمي إلى قضية وطنية. فالرجل يمثل "صندوق البلاد الأسود". فملف الاغتيال الذي اشتغل عليه يفك أسرار ما قبله وما بعده. ولذلك يُقبر من قبل "هيئة الدفاع" المستثمرة في دم الشهيدين، وتمنع الوصول إلى الحقيقة. فبالوصول إلى الحقيقة نهاية دورها وانكشاف أدوار كانت تناهض بقوة تأسيس الحرية واستقرار الديمقراطية.

ويمثل بلورة خطاب معركة وعرض سياسي محيَّن أولوية الحركة الديمقراطية في هذه المرحلة. وأن يكون الخطاب والعرض مشدودين بإحكام إلى الهدف الرئيسي : استعادة الديمقراطية. حتّى إذا ما قامت دعوة إلى "حوار وطني على قاعدة استعادة الديمقراطية" أو "أولوية إنقاذ البلاد والخروج من الأزمة على قاعدة استعادة الديمقراطية" عرفنا أن الدعوة من قبل جبهة الخلاص الوطني.

فالذي يعوز المشهد السياسي للخروج من الأزمة الخانقة التي تراوح مكانها هو نقطة بداية تكون منطلقا للخروج. لأن الاكتفاء بفكرة الإنقاذ أو الحوار الوطني، أو الدعوة إلى انتخابات رئاسية سابقة لأوانها دون مقترح عملي، ونقطة انطلاق فعلية (فكرة قاض مستقل، أو هيئة حكماء، على سبيل المثال…) يبقى مقترحا مجرّدا.

انفراج الأزمة

تشير تجارب الثورة والانتقال الديمقراطي إلى أنّ مثل حالات صراع التوازن قد تمتدّ ولكنها تنتهي بانقسام داخل أحد طرفي الصراع، فيحدث انفراجٌ في الأزمة بتنازلٍ عنوانه مراعاة المصلحة الوطنية. ويكون التنازل من جهة واحدة، مثلما قد يكون من الجهتين مع أقدار متفاوتة تتحدّد بمحصّلة الصراع ونتائجه على الأرض .

ويكون ذلك منعرجا سياسيا ومقدمة إلى مرحلة جديدة.

ومن نموذج الثورة يمثّل 14 جانفي 2011 شاهدا حيّا على هذه الحقيقة، فقد كان الانقسام داخل نظام الحكم بانحياز المؤسسة العسكرية، في ملابسات مخصوصة، نقطة تحوّل نحو كسر نظام الاستبداد وهروب بن علي. ومن نموذج الانتقال يمثل الحوار الوطني شاهدا آخر، فالحوار الوطني في حقيقته كان نتيجة انقسام القوى المحسوبة على الثورة (الشابي/الغنوشي). وكان انقسامها الثغرة التي عاد منها القديم بتحالف سياسي حول الباجي قايد السبسي ضم القديم ومجاميع اليسار. وكان التنازل باستقالة حكومة الترويكا المنتخبة لتحل محلها حكومة "تكنوقراط" نالت الثقة من المجلس الوطني التأسيسي، بعد أن تمّ التسليم بمرجعيته.

وهذا ما سيكون في مشهد الصراع بين الحركة الديمقراطية والانقلاب. ونعني انقسام داخل أحد طرفي المواجهة. فلن يستمر هذا الوضع على ما هو عليه.

ولا يخفى ما يشق الجهتين من اختلافات بسبب التعقيد والتركيب في صفّيْهما نتيجة سنوات الانتقال الصعبة وعجز النخبة عن إحداث التسويات المطلوبة على قاعدة بناء الديمقراطية. سنواتٍ كانت فيها البلاد مجالا مفتوحا للتدخل الإقليمي والدولي وصراع المحاور المحتدم.

أثر الاجتماعي الحاسم

لم يكن لـ25 جويلية من منجز سوى فسخ ما صاغته العشرية من مواثيق وهدم ما بنته من مؤسسات دستورية وتعديلية. وكان أداؤه في مواجهة الأزمة المالية الاقتصادية صفريا، ومعه دخلت البلاد في مأزق بلا أفق. وصارت بين خطري الانهيار المالي والانفجار الاجتماعي.

وينظر إلى الحديث الموجه من قبل قيس سعيّد إلى مديرة الوطنية 1 على أنه مؤشر على تصدّع داخل منظومة الانقلاب. ففي الحديث عن الخونة (من خانوا الثورة ) واللصوص (التجمع والنظام القديم) عودة إلى بناء تصور جديد لفكرة التصحيح دفْعًا لشبهة العلاقة بين الانقلاب والنوفمبرية، ومحاولةً لكسر حقيقة الصراع بين الانقلاب والديمقراطية التي ترسّخت. ويدرك سعيّد أن من يقف إلى جانبه اليوم هم من وصموه في الدور الأول من الانتخابات بالدوعشة وصوتوا لخصمه في الدور الثاني، وأن سجناءه من قادة الحركة الديمقراطية هم من قاد مساندته في الدورين، وهم من احتفل يوم فوزه في شارع الثورة بعاطفة غير محسوبة.

وفي كل الأحوال استنفذ كل طرف ما يملك من وسائل بغاية تجاوز خصمه. ولكن الوضع مستقر عند توازن ضعف، ولم يبق من عامل مرتقب إلا مآلات الأزمة الاجتماعية وافتقاد سلطة الأمر الواقع سبيل الخروج منها، وهي لم تقصّر في جمع كلّ الأسباب المحلية والخارجية لتفاقمها. وهذا المعطى هو الذي يرجّح انقسام منظومة الانقلاب تحت ضغط الأزمة الاجتماعية المفتوحة على أكثر من احتمال.

وأمّا بالنسبة إلى الحركة الديمقراطية فهي تدرك صعوبة جمع المعارضة على موقف موحّد رغم دعواتها المتكررة إلى أرضية دنيا مشتركة لإخراج البلاد من أزمتها. فالمعارضة تعاني من انقسامات موروثة عن سنوات الانتقال أهمها الاختلاف حول شروط الديمقراطية الذي تطوّر إلى اختلاف حول المبدأ الديمقراطي نفسه.

ويمثل هذا معضلة السياسة في بلادنا فقد انتهى الامر بجانب من القوى المنتسبة إلى الحداثة إلى إضمار أنّ الديمقراطية صارت عندها تهديدا وجوديا، فلم يعد لها من برنامج سياسي فعلي خارج استهداف شروطها. ولو أدّى ذلك إلى دعم أحطّ أنظمة الحكم وأشدها استبدادا.

حل دولي بأدوات محلية

لم يبق للمعارضة والحركة الديمقراطية ما تنقسم عليه، ومثّل المأزق الذي وضع فيه الانقلاب البلاد عامل تقارب موضوعي بين مكوناتها المتباعدة، وعلى هذا مؤشرات عديدة داخل النخبة (عرائض الجامعيين والأكاديميين وأساتذة القانون الدستوري). ولعبت الاعتقالات التي شملت أطيافا مختلفة من النخبة دورا مهما في التقارب والالتقاء الميداني في بعض المناسبات القليلة.

وكان للبروفيسور عياض بن عاشور موقف قوي دعا فيه إلى "مقاومة الانقلاب على الدستور". واعتبر أنّ أجهزة الدولة غير ملزمة بأوامر من خرج عن الدستور وقوّض الأساس القانوني الذي على قاعدته انتُخب.

ومن مفارقات المشهد السياسي في بلادنا أن النخبة التي خسر الانقلاب معركته معها (لا تقف اليوم إلى جانبه) هي نفسها التي كانت سببا في فشل الانتقال الديمقراطي حين فضّلت الانخراط في الصراع الهووي بدل العمل على دعم المشتركات. وقد كان للأستاذ راشد الغنوشي قول مشهور في هذا المعنى توقف فيه عند استحالة أن يحكم من تعارضه النخبة ولو تم انتخابه بأغلبية ساحقة. وأساس النخبة في بلادنا هو ما نشأ في ظل دولة الاستقلال ومجتمعها المدني بمزاج فرنسي.

سيكون للأزمة المالية الاقتصادية المتفاقمة دور حاسم في الخروج من المأزق، وستكون السنة السياسية الجديدة مثيرة. وسيقف خلالها الجميع عند حقيقة الأزمة وخطورتها وضرورة الإسراع بالخروج منها. ونرى الانقسام المحتمل في صف منظومة الانقلاب، وهو مقدمة لتنازلات متبادلة غير منفصل عما نسميه "عقل الدولة" أو ما بقي من عقل في هذه البلاد التي لن يستقيم حالها إلا على تسوية تاريخية على قاعدة المشروع الديمقراطي.

فيكون للانقسام معنى إيجابي من جهة كونه شرطا للوصول إلى كلمة سواء، بعد تمسك كل جهة بموقفها. وتكون مآلاته في خدمة المصلحة الوطنية لا المشاريع الفردية الحالمة ولا الفئوية الظالمة.

فكل المعارك تنتهي إلى تفاوض. وسيكون موقف الإدارة والأجهزة وازنا في هذا الاتجاه، دون أن يدفع بها إلى الواجهة السياسية التي لا تريدها ولم تكن جزءا من تقاليدها وتاريخها في الدولة.

كل هذا لا ينسينا في أنّ سنوات الانتقال الديمقراطي بما شقها من صراعات ساهمت في تجريف جانب من معاني السيادة القليلة، وأكمل الانقلاب المهمّة حتى بلغنا الدرجة الصفر منها. هذا الوضع يجعل، بكل أسف من شروط الخروج من الأزمة شروطا إقليمية دولية وإن كانت بأدوات محلية هي النخبة السياسية من الجهتين المتصارعتين. مع فارق نود تسجيله بين لحظة 14 جانفي 2011 ولحظتنا هذه. في 2011 تفرّدت المنظومة القديمة بالحل ورتّبت شروط الانتقال (هيئة بن عاشور، القانون الانتخابي..). وقاد المرحلة رموز النظام القديم باسم إنقاذ الدولة"، بعد تسليمهم بمعطى الثورة. فكانت الانتخابات التأسيسية بتلك الشروط رغم مشاركة الجماهير الواسعة. لقد كانت انتخابات بشروط القديم. وتفسّر تلكم الترتيبات جانبا من تعثّر سنوات الانتقال العشر والفشل بناء الديمقراطية.

ويتوقّع من حضور الحركة الديمقراطية أن تختلف الترتيبات المنتظرة (مرحلة انتقالية متوقعة) عن التي تمت في 2011 (بين 14 جانفي 23 أكتوبر). وأن يكون ذلك الحضور السياسي دعما للشروط المحلية مقابل الشروط الدولية الغالبة. وستكون أول خطوة على طريق الانتخابات الحرة والنزيهة انتصارا تاريخيا للديمقراطية. فلا مستقبل لبلادنا المنقسمة إلا بتسوية تاريخية على قاعدة الديمقراطية.

وفي كل الأحوال هذا الوضع لن يستمر طويلا…لأنّ في استمراره هلاك الجميع.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات