الشارع جزء من الديمقراطيّة

دعت حركة النهضة في آخر بيان صادر عن مكتبها التنفيذي أنصارَها إلى المشاركة في مسيرة وطنيّة من تنظيمها يوم 27 فيفري " لتكون رسالة إلى مختلف الأطراف السياسيّة والاجتماعيّة بضرورة الحوار وتعزير كلّ مقوّمات الوحدة الوطنيّة والممارسة الديمقراطيّة ". واعتبرت الحركة في بيانها أنّ المشاركة الواسعة في هذه المسيرة رسالة ثانية إلى " كلّ أحرار البلاد وعقلائها ومنظّماتها وأحزابها من أجل تغليب روح المسؤوليّة لتجاوز الأزمة السياسيّة".

لم ينجح هذا المستوى من البيان في التغطية على التعارض بين الهدف والوسيلة. فإذا كانت الحاجة متأكّدةً إلى "تعزيز كلّ مقوّمات الوحدة الوطنيّة والممارسة الديمقراطيّة" فإنّ المسيرة التي يراد لها أن تكون ضخمة ليست بالضرورة الوسيلة المناسبة. ولن يُنظر إليها، من قبل خصوم النهضة الذين فشلوا في التحشيد أمام مجلس نواب الشعب يوم تصويت منح الثقة وفي شارع الثورة في ذكرى اغتيال شكري بلعيد ، إلاّ على أنّها اختبار قوّة موجّه إليهم.

اختلاف حول دور الشارع

الثورة التي انطلقت من تونس وشملت أهمّ الأقطار العربيّة وأصبحت حالة سياسية وإيقاعاً يضبط حركة المجال العربي اعتُبرت "ثورة الميادين". وكان لاحتلال الحشود الميادين العامّة في تونس وصنعاء والقاهرة وطرابلس ودرعا رمزيّته القويّة في "الصراع على المكان والفضاء" بين الجموع المضطهدة والمفقّرة والدولة الوطنيّة التي احتكرت العنف والسلطة والثروة.

ولعلّ الأهمّ هو خروج هذه المعركة الدامية بين الدولة والحشود، التي لم تكن في أعين مؤسسي الدولة وزعماء الاستقلال أكثر من "غبار أفراد"، إلى الساحات. ومن ثمّ إلى العلن، بعد أن كانت تدور في سريّة وتعتيم داخل مخافر الإيقاف وأقبية السجون. كانت حربا مكتومة بين المناضل والجلاد فصارت مواجهة مفتوحة بين المواطن والسلطة تنقلها على المباشر الفضائيات والهواتف النقّالة من الساحات والشوارع.

بعد عشر سنوات من الثورة، لم يبق في تونس موضوع في الحياة السياسيّة لم يشمله التجاذب الحزبيّ والفئويّ الحادّ. وتأكّد أنّه لا مشترك يجمع بين الفاعلين في الحياة السياسيّة سوى تجاذبهم ذاته. ولعلّ الأخطر أنّه لا توجد مرجعيّة سياسيّة أو قانونيّة أو اخلاقيّة تردّ إليها الاختلافات ويُحتكم إليها ويُسْلَمُ لها القياد، رغم وثيقة الدستور المُجمع على مكانته القيميّة والقانونيّة والسياسيّة ووظيفته المرجعيّة. وكثيرا ما يُشار، أمام احتداد الأزمة، إلى غياب المحكمة الدستوريّة ودورها التحكيمي بين المتنازعين.

ولقد عرفت البلاد في المدّة الأخيرة عمليّة إرباك غير مسبوقة في أعلى مؤسسات الدولة. وهي صورة عن غياب هذه المرجعيّة التي تُرَدُّ إليها الخلافات، وعلى ضوئها تُفَضّ النزاعات. وكان بإمكان رئاسة الجمهوريّة أن تنهض بهذا الدور. ولكنّ انخراط رئيس الجمهوريّة في السجال السياسي، وصراع الصلاحيات المفتعل، ومن له حقّ التأويل الأخير لنصّ الدستور أبطل دور مؤسسة رئاسة الجمهوريّة التحكيمي ومنَعَها من أن تكون ممثّلة لكلّ التونسيين.

وإذا كان الاختلاف امتدّ إلى حدث الثورة،. فلا غرابة في أن يمتدّ إلى أهمّ أدواتها وأخصّ ميادينها وهو الشارع. وهو في جوهره اختلاف حول طبيعة الثورة وحقيقة أهدافها، وحول القوى التي فجّرتها وعلاقتها بمحيطها العربي والدولي. ويجثم هذا الاختلاف بظلاله الكثيفة على مسار بناء الديمقراطيّة ويفسّر، إلى حدّ بعيد، تعثّره وانحرافه عن الأهداف التي رفعها الانتفاض المواطني المنطلق من الهامش المفقّر.

حدود الحكم والمعارضة

من دواعي الحديث عن الحدود الفاصلة بين الحكم والمعارضة في تونس ما أثير من قبل مناهضي مسيرة الدفاع عن الدولة والدستور والديمقراطيّة التي دعت إليها حركة النهضة. ومن الاستفهامات الانكاريّة التي ينطق بها السجال: بأي معنى ينزل حزبا في الحكم ليحتجّ؟ هل يحتجّ على سياساته وما خلّفته من دمار على مدى عشر سنوات؟

وغالبا ما تكون الإجابة من خصوم الحزب بأنّ هذا الذي يحدث يُعدّ سابقة في تاريخ الأحزاب. وأنّ حركة النهضة التي حكمت لعشر سنوات مسؤولة عن الأزمة الماليّة الاقتصاديّة والصحيّة وتداعياتها الاجتماعيّة.

لذلك فإنّ الحديث عن حدود الحكم والمعارضة ومحاولة رسمها يمثّلان أهمّ مدخل على الإطلاق إلى أدقّ دقائق تجربة الانتقال إلى الديمقراطيّة في تونس وحقيقتها.

في تونس لم تحكم أيّة جهة، مثلما أشرنا في مناسبات سابقة. وقد يبد هذا صادما، غير أنّ الأمر يعود ببساطة إلى وقائع ماثلة تتلخّص في ضعف الثقافة الديمقراطيّة (عدم الالتزام الكامل بالنتائج السياسيّة للانتخابات) وانفصال الحكم عن السلطة (تذرّر السلطة وسيولتها بعد صلابة) وغياب الإجماع على "مبدأ البناء". وخلل في الأولويات ( لكلٍّ أولوياته).

ولذلك لم تتوفّر شروط الحكم الفعليّة، فكانت كلّ الحكومات منذ 2011 حكومات تسيير أعمال لا يتجاوز معدّل عمر الحكومة السنة الواحدة.

اعتُبرت السلطة المنبثقة عن انتخابات 2011 التأسيسيّة "سلطة مؤقتة". وكانت المنظومة القديمة ولواحقها الوظيفيّة أكثر من يؤكّد على هذه الصفة. وهي لا تخفي انزعاجها من صعود قوى محسوبة على الثورة تجمع بين الامتداد الاجتماعي الأهلي (حركة النهضة) والبعد الحداثي الوطني (حزب التكتّل) والوجه الثوري المقاوم (حزب المؤتمر). ولذلك كان التأكيد على أنّ دورها لا يتجاوز كتابة الدستور والتهيئة لانتخابات عامّة. وأنّ المرحلة الدائمة والمؤسسات المستقرّة ستكون مع الانتخابات المنتظرة.

ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار أنّه لا معنى للحديث عن حكم/معارضة في المرحلة التأسيسيّة، رغم مبادرة زعيم الحزب الديمقراطي التقدّمي الأستاذ نجيب الشابي في جلسة المجلس الوطني التأسيسي الأولى إلى إعلان نفسه في صفّ المعارضة.

كان منتظرا مع انتخابات 2014 أن تتوضّح الصورة وتستقرّ المؤسسات. ولكنّ نتائج الانتخابات التي تميّزت بانتصار القديم المفاجئ أفرزت ازدواجيّة في الحكم وفي المعارضة. ففي مستوى الحكم أفضت سياسة "التوافق" إلى رأسين للسلطة بل إلى نظامي حكم متجاورين: النداء والنهضة (بوزارة واحدة). وبقدرما كانت النهضة قريبة من "وعود ديمقراطيّة"، كان المعنى الحاف بصعود النداء لا يخرج عن مخاوف بـ"عودة للاستبداد".

وأمّا الازدواجيّة في المعارضة فقد كانت في ظهور معارضتين: معارضة وظيفيّة تمثّلها الجبهة الشعبيّة التي قطعت الطريق وصوّتت للباجي، ونواة معارضة عضويّة تمثّلها القوى التي صوّتت للرئيس المرزوقي (التيار والحراك خاصّة). ولذلك كان صراع حكم /معارضة العلني ثانويّا، وكان منتظرا أن يفضي الصراع الرئيسي (ثورة/ثورة مضادّة) إلى استيعاب "وعود الديمقراطيّة" لـ"عودة الاستبداد" واحتواء المعارضة العضويّة للمعارضة الوظيفيّة. ولكنّ النتيجة كانت بانفجار النداء واضمحلال المعارضة العضويّة وتبعيّة ما بقي منها للمعارضة الوظيفيّة.

رسائل لابد من الانتباه إليها

مع انتخابات 2019 ازدادت علاقة المعارضة بالحكم غموضا. ولم يعد مُمكنا تمييز حدود واضحة بين الجهتين. وساهم صعود الشعبويّة والفاشيّة في تعقيد الصورة. فإذا كان صراع الحكم والمعارضة، بعد 2014 تحت سقف الدستور، والمنظومة الديمقراطيّة التي بنتها الثورة ولا يخرج عن كونه "صراعا ديمقراطيّا"، فإنّ ما يعلنه الرئيس قيس سعيّد من مناهضة للديمقراطيّة التمثيليّة والمنظومة الحزبيّة وما تعلنه رئيسة الحزب الدستوري الحر من معاداة للثورة والشهداء والدستور والديمقراطيّة يضيفان معارضة جديدة إلى التجربة ومن خارج المنظومة الديمقراطيّة ونظامها السياسي. معارضة تؤسس لـ"صراع مع الديمقراطية". فنكون أمام ضربين من المعارضة وصنفين من الصراع: "صراع ديمقراطي" بمرجعيّة الدستور والمسار الديمقراطي والاختيار الشعبي الحر و"صراع ضدّ الديمقراطيّة" يخوضه الرئيس سعيّد وعبير موسي. وهو في جوهره استهداف علني للديمقراطيّة وأساسها الدستوري والسياسي.

ولكنّ المثير في كلّ هذا أنّ هذا الصراع الذي يستهدف مسار بناء الديمقراطيّة يدور داخل المؤسسات التي أفرزها مسار الديمقراطيّة نفسه. وأن القوّتين المناهضتين للديمقراطيّة تحتلاّن موقعا داخل مؤسسات الديمقراطيّة المستهدفة. فقيس سعيّد هو اليوم رئيس الجمهوريّة وعبير موسي رئيسة حزب له كتلة في البرلمان. ويتقاطع سعيّد وعبير في تعطيل مؤسسات الدولة وإرباكها. ففي حين لم يكن لعبير موسي غير مهمّة هرسلة المؤسسة الأصليّة وترذيلها وتتفيه دورها انتهاء بتعطيله، فإنّ الرئيس قيس سعيّد يقف حاجزا دون السير الطبيعي للمؤسسة التنفيذيّة بخرق واضح للدستور وباستدامة صراع بلا أفق مع رئاسة الحكومة. والمعارضة اليوم معارضتان: معارضة ديمقراطيّة ومعارضة مناهضة للديمقراطيّة. وهو ما يمنع من توضّح حدود الحكم والمعارضة. وازداد الأمر تعقيدا بتقاطع قوى ديمقراطيّة (الشعب والتيّار) موضوعيّا مع الفاشيّة وعمليّا مع الرئيس قيس سعيّد رغم مناهضتهما للدستور والديمقراطيّة. وهو ما يجعل الجميع معارضا والجميع في الحكم قياسا إلى الحضور في أعلى مؤسسات الدولة.

ومن ناحية أخرى فإنّ الظروف التي انطلق فيها تشكيل حكومة المشيشي تُضاعف من غموض الحدود هذا. وهي التي بدأ تشكيلها تحت عنوان "حكومة الرئيس" وانتهت يوم منحها الثقة حكومةً مستقلّةً بحزام سياسي برلماني. وهذا لا يجعل ممّن منحها الثقة "أحزابا حاكمة".

في سياق هذا الخلط الكبير بين مستويات الصراع وامتناع قيام حدود واضحة بين الحكم والمعارضة تأتي مسيرة النهضة. وقد أشار بعض المتحدّثين باسمها إلى أنّها إلى جانب دفاعها عن الديمقراطيّة فإنّها تدعم الشرعيّة. وهذا بدوره ناتج عن الخلط عند القيادات النهضويّة المتولّد عن غياب الحدود السياسيّة الواضحة بين الحكم والمعارضة. فإذا كانت عبارة الدفاع عن الشرعيّة لا يمكن أن تصحّ في حقّ المعارضة الديمقراطيّة فهي جزء من الديمقراطيّة، فإنّها تصحّ في شأن من يستهدف المنظومة الديمقراطية برمّتها.

ما أشرنا إليه من تعقّد المشهد السياسي، وتعدّد مستويات الصراع، وحركة القوى السياسيّة الفاعلة باتجاه الديمقراطيّة أوفي مواجهتها تعدّ أهمّ الرسائل التي وجب الانتباه إليها.

وتبقى رسالة المسيرة، وهي غير منفصلة عن التعقيد الذي أشرنا إليه، بل لن تفهم إلاّ في سياقه، وهي رسالة تتجاوز وضع النهضة الداخلي وخلافاتها وانقساماتها وعلاقتها بمسار بناء الديمقراطيّة وشروطه المحليّة لتشير إلى وضع دولي ضاغط يتّجه إلى الربط بين نجاح الديمقراطيّة في تونس وليبيا (مرحليّا) ومصالحه التقليديّة. والنهضة ومسيرتها غير منفصلين عن هذا التوجّه الذي يبدو أنّه حسم الأمر لصالحه في مقابل توجّه داعم لاستعادة أنظمة الاستبداد باعتبارها الأقدر على ضمان المصالح ورعايتها.وهو توجّه كأنّه بدأ بالانسحاب وإحصاء خسائره، ولم يبق له غير مهمّة الإرباك لعلّها تُخفف من هذه الخسائر الاستراتيجيّة.

في هذا السياق يصبح طرح سؤال السيادة من الكلام الذي يكبُر خروجه من أفواه الساسة. أمّا من يلهجون بعنوان السيادة وأقدامهم منغرسة "في مزبلة التبعيّة" فإنّه لن يبقى من أصواتهم إلاّ رجع صدى باهت يذهب مع أوّل ريح.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات