ما يستحقّ التفكير فيه

1 - دولة الكيان زائلة بحكم طبيعتها الوظيفية مثلما بيّن المفكّر الكبير عبد الوهاب المسيري. واليوم أكثر من مؤشّر على زوالها. ولكن قد يرحل الاحتلال ولا تتحرّر فلسطين. وفي تجارب الاستعمار الحديث عبرة. فقد رحل الاستعمار العسكري والاستيطاني بعد أن أوغل في تدمير أبنية الانتظام الأهلي وأنظمة الفكر والسلوك. خرج الاستعمار الفرنسي بعد أن زرع شروط استمراره واستمرار مصالحه بتركه مجاميع فكرية وسياسية واقتصادية من بني جلدتنا تمنع التحرّر الفعلي منه.

وما سمّي بالدولة الوطنية التي كانت في حقيقتها جهويّة ظهرت في هذا السياق وضمن هذه المعادلة: يخرج الاستعمار ولا يتحرّر البلد. ومن أهمّ الأسباب أنّ المقاوم ليس هو المفاوض على مستقبل البلاد ومصالحها. ولذلك عمد المستعمر قبل خروجه إلى تصفية ممثلي المجتمع الأهلي الفعليين (حشّاد نموذجا) لتتواصل شروط الاستعمار بعد خروجه.

ثورة الحرية والكرامة رسّخت أنّ أساس التحرّر وخطوته الأولى تأسيس الاختيار الشعبي الحر. وأماطت اللثام عن انقسام مجتمعي اجتماعي وهووي حادّ لم يمنع إسقاط نظام الاستبداد، ولكنّه بقي عقبة في وجه البناء الديمقراطي الجديد واستقراره.

2 - فالدولة الوطنية جهويّة لأنّها اقتطعت جزءا من المجتمع واصطنعت لنفسها (المجتمع المدني) وتركت نصف المجتمع للعراء (المجتمع الأهلي، أو الهامش). وحين خفت صوت الهامش/الأهلي تواتر اختلافها حدّ الصدام مع "مجتمعها الأهلي (26 جانفي 78). وكلّما دبّت الحياة في المجتمع الأهلي المفقّر والمهمّش هبّ المجتمع المدني لنصرتها. وكان هذا في ثورة الهامش وأطوارها السياسية. حتّى أنّ دوره في "الانقلاب اللطيف" (الحوار الوطني) على التأسيس في التجربة التونسية يقابله ويطابقه دور مؤسسة الجيش في "الانقلاب العنيف" على تأسيس الديمقراطية في التجربة المصرية.

وقد كانت الانتخابات الرئاسية في مصر (شفيق/مرسي) وتونس (الباجي/المرزوقي) أبانت عن هذا الانقسام النمطي (50%/50% تقريبا ) . وأنّه لا سبيل إلى استقرار الديمقراطية إلاّ بتسوية تاريخية بين القوى المجتمعية الفعلية.

وقد كانت محاولة لهذه التسوية بعد انتخابات 2014 في بلادنا في اتجاهين متوازيين :

- سياسة التوافق بين الباجي والغنوشي بشروط الباجي الفائز بالرئاسة الثلاث. وعنه كان قانون المصالحة الوطنية، وبموجبه جازى الباجي من أوصلوه إلى الحكم من رجال الأعمال ورعاة اقتصاد الريع، والأصل أنّهم موضوع محاسبة اولوهم في المال العام.

- وتجربة العدالة الانتقالية ، وقد كان لرئيسة الهيئة دورا "رياديا"في تدميرها بالشراكة مع ناهبين جدد وجوعى محسوبين على الثورة جعلوا من مهمّة "التحكيم" في الهيئة غطاء لاقتسام المغانم مع نهبة المال من عصابة السرّاق.

3 - في ظلّ هذا الانقسام المضاعف لا بديل عن التوافق إلاّ الاحتراب الأهلي ليفني أحد النمطين خصمه أو يفْنَيان معا. وهو ما يجعل التوافق ضرورة، والصراع الحقيقي حول شروطه. وشرطه الأساسي أن يتمّ داخل المنظومة الديمقراطية وباتجاه استكمال إرساء مؤسساتها. وجود النمطين حقيقة موضوعيّة وعلاقتهما (تنافيا أو صراعا ديمقراطيا) حقيقة سياسية قائمة.

وقد عرفت هذه العلاقة تحوّلا من "واجب محاسبة القديم على قاعدة التأسيس" (من 2011- 2014) إلى "واقع منافسته على قاعدة التوافق" (بداية من 2014..).

فالقوى المحسوبة على الثورة المتنابزة بالعلاقة بالقديم سواء التي بادرت بالاستقواء به (نجيب، حمّة) أو التي دُفعت إلى التوافق معه بشروطه للوقاية منه (الغنوشي) وما تزال تدّعي وصلا بالثورة يمكنها أن تدرك أنّ "الثوريّة" كما كانت في التأسيس يمكنها أن تكون في التوافق إذًا وعت بشروطه واجتهدت في أن يكون أهمّها "الشرط الديمقراطي"، وإلاّ فإنها تعيد في شكل مهزلة علاقتها بالقديم زمن الاستبداد، بعد أن حررتها شبيبة الهامش المنتفضة من قيودها.وسلّمتها الأمانة "ذات قصبة".

ومن يقف على ناصية البلوكاج السي والتعطيل الشامل في رئاسة الجمهورية لا لا يضيف جديدا إلى المعادلة الكبرى والرهان الأصلي في مسار بناء الديمقراطية ولا يمكن أن يكون إلاّ قوة وظيفية في يد القديم ومشتقاته المتناثرة، سواء كان هذا القديم دسّه أو اكتشفه بعد هزّة انتخابات 2019 التي كانت جولة مزاجها العام لصالح "الجديد" المبعثر بدوره وغير واضح الحدود، وبمكوناته استعدادات وظيفية عالية.

هذا الوعي المطلوب هو الذي سيمكّن إعادة بناء الدولة لكي تغطّي كل مجالها الاجتماعي (تنمية محليّة مستدامة) ومجالها الثقافي (بناء مشترك وطني) وهذا ما سيمكّنها من مغادرة جهويّتها لكي تكتسب عن جدارة صفة الوطنيّة في سياق الديمقراطية، وهذا هو جوهر ما نسمّيه "المشروع الوطني".

4 - من المهمّ أخيرا الوعي أو حتّى مجرّد الانتباه إلى أنّنا بإزاء جيل جديد من "الثورات الإصلاحيّة" يعقب ويرث جيل "الثورات الجذريّة"(الفرنسية، البولشيفية،الإيرانية)**. وهي ثورات قامت بعملية "مسح الطاولة" لقديمها وطبقته السياسية، ولكنها انتهت إلى هويّة انتظام عمودي قاتل ومن ثمّ انتهت إلى تجارب في الدولة الحكم أبشع من التي ثارت عليها.

الثورة فكرة الفلاسفة وأساسها التناقض ووجهها السياسي الاجتماعي التنافي الصراع، والإصلاح فكرة الأنبياء وأساسها الاختلاف ووجهها السياسي الاجتماعي التدافع والتعارف. ومن وجهة النظر المنطقية والعقلية لا الزمنية التاريخية يبدو الأنبياء أكثر تواضعا وجدّة من الفلاسفة حتّى لكأنّهم أقرب إلينا زمنيّا.

في حديث مع صديق سابق من رموز بريسبكتيف جمعتنا تجربة المؤتمر والترويكا (2011 - 2013 ) قلت له يوما جادّا كما لم أكن جادّا من قبل: لو كان ماركس جاء بعد محمّد لكانت صياغته لما عرفته أوروبا أقلّ سذاجة لاعتباره أن "الاقتصاد حقيقة تسبق كل الحقائق". ولأنتبه إلى أنّ فكرة الصراع الطبقي الأشدّ "عامية" أريد لها أن تصبح "عالمة" دون أن تغادر سذاجتها.

فالإصلاحيّة التي نشير إليها تقع من ناحية قيمتها وصلتها بالحقيقة الإنسانية على يسار الثورة.

فالتسوية التاريخية التي تعتبر ضرورة لا في سياقنا الوطني فحسب، وإنّما في مجالنا العربي والعالم . وإنّ حقيقة الثورة (وأعني الإصلاح)في شروط هذه التسوية الإنسانية (أي علاقتها بإنسانية الإنسانيّة)، وأنّ أيّة عمليّة إصلاح إنّما هي تقدّم نحو "الإصلاح المحمدي" الذي ختم النبوّة وفتح باب التاريخ (منوال الفسيلة) . وهو إصلاح يقوم على "أعلى النتائج السياسية بأقل خسائر إنسانية"(فتح مكّة نموذجا).

** للفيلسوف أبي يعرب المرزوقي محاضرة مرجعيّة في مجالها ببيت الحكمة عنوانها : العقل والروح : نقد هيغل لنقد الفلسفة الحديثة. وفيها إشارة لطيفة، تختلف عما أشرنا إليه من طبيعة الثورات الجذريّة ومنها الثورة الفرنسية، يميّز فيها الثورة الفرنسية عن غيرها من ثورات أوروبا ويراها من خلال أطوارها وعلاقتها بالفلسفة الغربية هي الأقرب إلى روح الثورة المحمدية وإصلاحها السياسي، وكأنّها تقدّم في أفقها. وذلك من خلال عناوينها الكبرى (الحرية، المساواة، الأخوّة).

أو هذا ما تمكنت من تمثله من المحاضرة، فالأخوّة (الأخوة الإنسانية) علاقة سياسية في انتظام أرقى من الدولة، وتلك رسالة الانبياء عبر مسارها الإصلاحي الطويل. والمواطنة سليلة الدولة وانتظامها السياسي. وهذا مجال لنقاش خصيب لم ينطلق في بلادنا منطلق ثورة الألفيّة الثالثة.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات