مؤسّسة العائلة إلى أين؟

Photo

لا شكّ في أنّ التنشئة الاجتماعية شأن وطني نتحمّل مسؤوليته جميعا، وهو همّ مصيري نتقاسم أعباءه دون ميز، ويشترك الجميع كلّ من موقعه في تحمّل أمانة الاضطلاع به. وليس من حقّ أي كان أن يتخلّى عن مسؤوليته الأخلاقية والعلمية تجاه الوطن أولا وتجاه الأجيال القادمة ثانيا، لا سيما في هذه المرحلة الحرجة التي تمرّ بها البلاد من تفكّك منظومتي التعليم والقيم.

من البديهي، أن تتأثّر العائلة (بوصفها حاضنة للقيم) سلبا وإيجابا بالتحوّلات التي تشهدها البلاد، فهي كبقية مؤسّسات المجتمع يتفاعل أفرادها بما يدور حولهم من تغييرات في أنماط العيش تفرضها السياقات السياسية والاقتصادية المحلية والإقليمية. لكن أمام هذا التعدّد في النماذج هل يحقّ لنا في واقعنا الحالي أن نتحدّث عن العائلة في صيغة الفرد؟ وأمام مظاهر الزواج العرفي والأمهات العازبات والعلاقات الحرّة، وأمام ارتفاع نسبة الطلاق وعزوف الشباب على الزواج وجرائم الإغتصاب والمطالبة بتقنين زواج المثليين..من المفروض أن يصيبنا الهلع ونرفع أصواتنا طارحين أسئلة باتت مُلحّة وحارقة: هل العائلة في شكلها الحالي تعاني من أزمة حادّة وانحدار قوي قد يؤدّي إلى تفكّك المجتمع وانهيار منظومة القيم أم هي فقط مرحلة انتقالية يفرضها الحراك الاجتماعي؟

الأكيد أنّ بنية العائلة تتغير وتأخذ أشكالا جديدة تتناسق مع التحوّلات التي تشهدها المُجتمعات الحديثة، والأكيد كذلك أنّ الدولة المدنية تلعب دورا مهمّا في تنظيم حياة الأفراد ويُفترض بها أن تحمي حقوق مواطنيها وتعيد توزيع الثروة بشكل عادل وتسهر على حسن سير المرافق العمومية. والأكيد أيضا أنّ مؤسّسات المجتمع المدني يُفترض أن تلعب دورا رئيسيا في بناء منظومة اكتساب المعرفة إنتاج المعنى وجولان القيم داخل المُجتمع.

لكن كيف نضمن قيام هذه المؤسّسات (العائلة والدولة والمجتمع المدني) بوظائفها في مرحلة الانتقال من وضعية إلى وضعية أخرى دون أن تنهار العلاقات وتتمزّق الروابط وتعمّ الفوضى وتتفشّى اللاّمعيارية. فما يعانيه مجتمعنا اليوم من تسيّب وعدم انضباط ولاعقلانية في طريقة التعاطي مع مجالات الحياة الخاصة والعامة هي نتيجة: أولا لفشل "الدولة الوطنية" بنسختيها البورقيبية والنوفمبرية في صناعة شخصية تونسية مُتوازنة ومُعتدلة. ولذا حين فقدت "الدولة" قدرتها على تسيير الشأن العام (ولو بمنطق العصا) انهارت فكرة "الدولة" الراعية للمرافق العامة والضامنة للحريات والحامية لمصالح الناس، ودخل المُجتمع في حالة من الفوضى واللاّمعيارية تؤكّد أنّنا لم نكن يوما حداثيين ولا مواطنين. ثانيا سياسات التعليم والتنشئة التي وضعتها الدولة (احتكرتها النخب السياسية والفكرية ذات التوجّه اللاّهووي) خلال العقود الفارطة دفعت العائلة إلى التخلّي عن دورها في التنشئة الاجتماعية والتفريط في مهمة بناء هوية الأفراد وضمان شروط تماسكهم، ولذا أمام البركان الذي هزّ المُجتمع وجدت العائلة التونسية نفسها كمؤسّسة اجتماعية عاجزة كلّ العجز على توفير الحدّ الأدنى من التضامن المادي والمعنوي لمُختلف أفرادها، ولم تعد قادرة على السيطرة على التسونامي المحيط بأفرادها…

غياب النظرة الإستراتيجية داخل وزارة الأسرة وداخل الأحزاب السياسية وأسلوب الارتجال في التعاطي مع قضايا المُجتمع زاد من ارتفاع نسق الانحدار ويُنذر بالانهيار التام. هذا إلى جانب غياب البعد الاجتماعي داخل الخطاب الديني وانعدام التناسق بين المطالب الاجتماعية وخطب الجمعة المُعتمدة من طرف الأيمة.

إنّ هذا الوضع معروف لدى أغلب التونسيين والمسئولين على وضع سياسة التعليم والأسرة والشؤون الدينية منذ بداية الثورة. وكان من الممكن تدارك عديد مواطن الوهن ولو جزئيا عند تولّي الترويكا الحكم. ولكنّ من البيّن أنّ مرحلة "التأسيس" زادت من تفاقم الوضع المزري لأسباب يطول شرحها، ولكنها تعود، من بين ما تعود إليه، إلى غياب الرؤية الواضحة وعدم وجود تمشي تشاوري وسعي جدّي من أجل حماية نسيج مؤسّسات المُجتمع من التشتت والإنهيار.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات