مُحاربة "الإرهاب" تكون بوحدة وطنية مُحرّكها "الرُّجْلَة".

Photo

أنطلق في هذا التحليل من ثلاث مشاهد:

المشهد الأول: نشرت إحدى الصديقات، وهي أستاذة، على حائطها الفايسبوكي صورة لتلميذ بهي الطلعة في ريعان الشباب وأخبرت أنّ هذا الشاب الوسيم الممتلئ حيوية ونشاط هو أحد ضحايا العملية الإرهابية الأخيرة، وأنها درّسته بإحدى المعاهد بضواحي العاصمة.

مثّلت الصورة صفعة موجعة جعلتني أرتعش وأقول في نفسي "الدقّ هذه المرّة في الدربالة !!!! إنّ فيروس الإرهاب اقترب جدّا هذه المرّة، وبات قاب قوسين أو أدنى من فلذات أكبادنا ومن أولاد أخوتنا وأخواتنا ومن أبناء جيراننا وأبناء معارفنا ومن جميع أبناء أحبابنا وخلاّننا ... إنّه بات كالغول يتربّص بشباب تونس ولم يعد يُفرّق بين غني وفقير ولا بين إسلامي و علماني ولا بين بريء ومُدان ... إنّه يحصد الأرواح دون فرز ولا تمييز".

أمّا المشهد الثاني: تداولت بعض المواقع والصفحات الفايسبوكية صورة لزوجة أحد شهداء الأمن الرئاسي، لعلّ بعضكم أو جلّكم اعترضته صورة تلك الشابة الحسناء صاحبة الابتسامة العريضة، في لباسها الأبيض النقي لعلّكم تساءلتم مثلي هل كانت صورة ليلة زفافها أم ربّما حنّتها أو عقد قرانها؟ هي باختصار صورة لفرحتها التي قصفها "الإرهاب" نعم ابتلع الغول حبيبها وتركها تلوك وجعها وتجترّ ألمها وألم مُضغة استقرّت داخل أحشائها.

ارتعبت وأصابتني رعشة وقلت في نفسي "الدقّ هذه المرّة في اللحم الحي !!!! إنّ الإرهاب اقترب كثيرا كثيرا هذه المرّة، تلك العروس الشابة صاحبة الابتسامة الحلوة التي فقدت حبيبها ألا تُشبه ابنتك؟ أو لعلّها تُشبه حبيبة ابنك؟ ابتسامتها ألا تذكّرك بإحداهنّ؟ ماذا لو خطف "الإرهاب" حبيب ابنتك أو خطيبها أو زوجها؟ ماذا لو اقترب منك "الإرهاب" أكثر وأكثر وخطف قطعة منك أو شيء عزيزا على قلبك ؟

أمّا المشهد الثالث والأخير: كنت بصدد مُكالمة إحدى الصديقات وهي أستاذة فنون تشكيلية، فجأة توقّفت عن الكلام وسمعتها تردّ التحية بكلمات حُلوة وعبارات عذبة... قالت هي تلميذتي مرّت بجانبي وكانت تُرسل لي القبلات فأردت أن أردّ تحيّتها بأفضل منها، وتنهّدت وقالت "تلاميذي هم من تسمّينهم أنت "أولاد الحفيانة" يسخّفوا ضايعين وموش فاهمين الدنيا، البارح تلميذ قال لي: مادام والله لو كان موش الحصة متاعك نتفرهدو فيها كنت باش نبطّل القراية شيء يفدّد...".

تراقصت أمام ناظراي هذه المشاهد الثلاث، فرتّبتها ووضعتها جنبا إلى جنب مع مشاهد اقتطعتها من بعض بلاتوهات إعلام الأيام الفارطة. حاولت البحث على تقاطعات في المعاني والدلالات ودقّقت في الخلاصات والاستنتاجات التي توصّلت إليها "نخبتنا الفكرية والسياسية"، فبدا لي عُقم عقل اليسار السياسي وتراءت لي "الرطابة وقلّة الإيدام" لعقل الإسلام السياسي. كلاهما ينظر من زاوية تخصّه ومن ثقب يعنيه، وكلاهما مُنغمس في البحث عن غباء خصمه ليوقعه في شراك دهائه.

بينما السؤال الذي يحرقني وإيّاكم هو كيف نتجنّب رؤية هذه المشاهد مرّة أخرى؟ وكيف نوقف زحفها ونجعلها لا تقترب أكثر؟... كيف نُجنّب شبابنا السقوط في فخّ الغول المُتربّص بهم؟

إنّ مُحاربة "الإرهاب" ومُقاومة التطرّف تكون أولا ببناء منظومة تربوية مُتوازنة، يكون فيها الأستاذ رسولا والوزير نبيّا والتلميذ مُريدا. ثمّ بمُصالحة الشباب مع ذاته عبر اعتماد برامج تعليمية مُتماهية مع ثقافة المُجتمع.

من جهة أخرى، إنّ الشبكة العالمية التي تقف خلف شبكات"الإرهاب" المحلّي لا يُمكن مُحاربتها بأدوات بسيطة وغير مُتناسقة مع السياق العالمي الذي يتحرّك بداخله المُجتمع. كما لا يُمكن للأفراد أو المجموعات المُتنافرة أن تتصدّى لخطره وهي في حالة احتراب داخلي حيث الجميع يُصوّب فوهة بندقيته في اتجاه الجميع وكلّنا يتّهم كلّنا ونحن نُقاتل نحن الآخر.

لا مفرّ أمام شعوبنا المُفتّت وعيها من تجميع ما بقي من هذا الوعي من أجل تكريس قيم التضامن والتآزر وتقوية أواصر الوحدة بمُشاركة نحن لنحن الآخر أحزانه، وجمعنة الألم وتعميم الشعور بالوجع. نعم لا يكفي أن نضع j’aime على صورة الأمني المغدور ولا أن نقوم patagerبــ لصورة العروس المكلومة، أو أن نلعن أشلاء "الانتحاري" الذي نسف حياته وحياة الأبرياء في لحظة تراكب بداخلها الجهل والغباء واليأس.

نعم نحن بحاجة لوحدة وطنية، لكن ليس بالمواصفات والشروط التي يضعها المُتحذلقون من السياسيين بيسارهم ويمينهم- لأنّ كلاهما يتمعّش من غباء/دهاء الآخر-، وإنما بمواصفات تفرضها ثقافة المُجتمع وقيمه التي تجلّت في أسمى معانيها خلال الأيام الأولى من ثورة 17-14. نعم تلك القيم التي أمطرت وانهمر غيثها في القصبة1 والقصبة2، فعمّ التضامن والتآزر ووحدة الصفّ وبات الجميع يسهر على راحة وأمن الجميع دون حسابات أيديولوجية ولا سياسية، فقط كان المُحرّك هو الرجلة وما تفرضه من "واجب حماية شباب الحومة لرجال ونساء وأطفال حومتهم حتى لو كانوا ما يشبهولهمش".

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات