بين الدّستور والسّياسة

"دستوريّا وقانونيّا هو انقلاب وخروج عن الشرعيّة ، لكن سياسيّا هو تصحيح واستجابة لنبض الشّعب " هكذا دندن بعض أساتذة القانون على امتداد هذه الأيّام ، أمّا القسم الأوّل من الأطروحة فبيّن ولا يمكن لهم نكرانه وإلّا سقطت كلّ معارفهم وشهائدهم ومصداقيّتهم العلميّة والأكاديميّة والأخلاقيّة،

أمّا نقيض الأطروحة فما هو معياره ؟ وما هي مرجعيّته ؟ هل هو ما يُدَرَّس في اختصاص العلوم السّياسيّة ؟ - ونحن نعرف جيّدا ما يدرّس في هذا الاختصاص من تمييز بين القيم السياسيّة التقليديّة للقرون الوسطى والقيم السياسيّة الحداثيّة - ... أم هو التّحليل الشّخصي والقراءة الذّاتيّة؟

أمّا التّحليل الشّخصي فهو مفتوح على التّقديرات النسبيّة التي تتفاوت بين الذّاتيّ والموضوعي باختلاف زوايا النّظر والأطروحات الفكريّة والأيديولوجيّة والمقاربات المنهجيّة والمصالح والمواقع، وليس خاضعا لمعايير دقيقة وقطعيّة ،

فمثلما يمكن بناء على هذا التّحليل الذّاتي للسّياسة اعتبار التحرّكات الاحتجاجيّة الغاضبة انتفاضة شعبية لها مرجعيّة تحكيميّة ما فوق دستوريّة تعطي للفرد شرعيّة التّفويض المطلق للانتقال إلى الحكم الفردي المطلق وتركيز كلّ السّلطات بيده لتنفيذ ما يراه نبض الشارع ،

مثلما يمكن ذلك، يمكن في المقابل اعتبار كلّ ما حدث أمرا مخطّطا له من خلال صنع مناخات الأزمة والمزيد من تعفين الأوضاع المترديّة بشكل قصدي لتعطيل مؤسسات الدّولة وصنع حالة احتقان شعبيّ تعطي المسوّغات للانقلاب على التّعاقدات الوطنيّة المنجزة، ولن نعدم وجود قرائن ووقائع تدعم هذا التّحليل،

ما يتواتر لدى عدد من القانونيين والسياسيين من نقد للديمقراطيّة الشكليّة الجوفاء واستهجان عبادة النّصوص وتقديسها، مفيد إذا كان القصد منه تطوير المنظومة الدّيمقراطيّة وتحصينها، وتطوير المنظومة الدّستوريّة والقانونيّة لتكون في خدمة النّاس وتحقيق المصلحة العامّة للدّولة والمجتمع ، بل هو أمر محمود شهدته كلّ التّجارب الدّيمقراطيّة وهي ترسّخ أقدامها،

لكن أن يتّخذ ذلك أساسا للتفصّي من الدّيمقراطيّة وإضفاء المشروعيّة على الانقلابات وانتهاك التّعاقدات فهو أمر مناف للمنطق السّليم وينطويّ على تناقضات صارخة خاصّة عندما يصدر عن أكاديميين يفترض فيهم الضّبط والانسجام المنهجي.

الدّيمقراطيّة تجربة حيّة تحصّن نفسها بنفسها إذا لم يتدخّل عنصر خارجيّ ليقطع عليها الطّريق ويجهضها تحت مسوّغات واهية رغم جاذبيّة الخطاب الشّعبويّ وبريقه الخُلَّب،

فتح الباب للشعبويّة والتّاويلات السياسويّة والاتّكاء على نبض الشّارع والمزاج الشعبي للانفراد بتقرير ما يتعلّق بإدارة الشّان العام ، هو فتح الباب للمغامرين والمقامرين للنّسج على نفس المنوال وتأسيس للفوضى والمغالبة وحكم الهوى.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات