الشدائد المعرفية تفضح السوءات الفكرية: الدين والعلم…

Photo

من جديد السؤال الكلاسيكي الدين والعلم تفرضه الأحداث هذه الأيام: العلم عاجز ولم يبق غير الدين؛ الدين ليس له ما يقدم أمام الأزمة فالكل ينتظر العلماء...

باختصار:

- الإستفهام عن دور الدين هو استفهام متعلق أيضا دور الفلسفة والفن والعلوم الإنسانية كافة، فليس لعالم اجتماع ولا لعالم اقتصاد ولا لفنان ولا لفيلسوف أيضا ما يقدمون لنا لمكافحة المرض عضويا. العلم فقط هو المعني بالدواء.

- العلم هو دراسة الموجود الوضعي ذي الحضور المحدد في المكان والزمان وذي المادة واللون والحجم والشكل و... مع اختلاف حصوله على هذه الخصائص كما ونوعا. العلم لذلك مضبوط النتائج وتخف درجة صرامته مع خفة هذه الخصائص في الموجود المدروس نفسه. الدين والفلسفة والفنون والإنسانيات عموما لا تتعلق بها دراسة الموجود الوضعي.

- لكن بمثل ما الدين والفلسفة والفن لا يملكون أقوالا عن الموجود الوضعي في الزمان والمكان، ولا يقدمون دواء لكورونا، بمثل ما العلم عاجز أن يقول كلمة واحدة عن الموضوعات غير الوضعية، عن الحرية وعن الأخلاق وعن المعاملات وعن نظام الدولة وعن معنى الوجود. العلم ليس له ما يقدم للإنسان وإنسانيته كما وضح الفيلسوف الألماني هوسرل: ليس له ما يقول لنا حول وجودنا الإنساني... وبترجمة هيدغير للفكرة:

العلم لا يفكرla science ne pense pas, Die wissenschaft denkt nicht .

- العلم الصحيح من جهة والإنسانيات من جهة ثانية يملآن مساحتين مختلفتين من وجودنا : للعلم وجودنا الوضعي الكمي، وللفلسفة والدين والفن وجودنا الإنساني الروحي. لذلك لا معنى أصلا للحديث عن العلم يستغني عن/يتجاوز الدين ولا للدين يستغني عن العلم تماما كما يمثل القلم والسيارة والغذاء في وجودنا الحيوي مساحات مختلفة لا يستعاض بأحدها عن الآخر: القلم للكتابة والسيارة للنقل والطعام للتغذي...

فالذي يفقد الغذاء لا معنى أن يمتطي السيارة ليشبع، بل فقط أن يبحث عن غذاء مماثل والذي يفقد وسيلة نقل لا معنى لأن يأكل فيبلغ الهدف، بل فقط يبحث عن وسيلة نقل جديدة. الإستعاضة والتجاوز مفاهيم ممكنة فقط داخل الدائرة المعرفية الواحدة، داخل النمط المعرفي الواحد. فلا يعوض السيارة إلا طائرة ولا يعوض غذاء إلا غذاء مماثلا ولا علم يتجاوزه عدا علم آخر، تماما كما لا يعوض الدين ولا يتجاوزه عدا دين آخر.

- هكذا فالحديث عن علم يعوض الدين وهم معرفي خالص. وإذ لا يعوض الدين سوى دين آخر فإن المقصود بهذا القول ليس العلم بل الإعتقاد في العلم والإيمان بالعلم وتحويل العلم إلى تصور للعالم وفهم ورؤية، أي الإعتقادات الجديدة وأشكال الإيمان الجديدة التي أنتجت تحت غبار العلم وفي عتمة القول العلمي. وهي مغالطة معرفية كبرى تشتغل بحسب الآلية التالية: يتسلل العقل داخل العلم ويلبس لبوسه ليحول قراراته الوضعية (البريئة في الأصل) إلى اعتقادات وإيمان مختلف في مضمونه فقط عن الإيمان الديني التوحيدي.

هاهنا ليس العلم من عوض الدين بل دين جديد وكم من الإعتقادات أنتجت حول عوضت دينا سابقا.
- لكن بالمقابل فإن الدين من دعاء وصلاة و.. لا يعوض العلم ولا يتجاوزه. والمتدين/المسلم هنا الذي يضع العلم موضع استفهام لا ينتبه إلى أنه بهكذا سلوك يضع كل نصوص الدين نفسها موضع استفهام، من نصوص التداوي والتطبب (تداووا فإن الله قد جعل لكل داء دواء) حتى نصوص النظر والتفكر في الكون حتى حكمة الخالق لم وضع الكون؟

- لكن مع أن الدين والعلم دائرتان لا استعاضة بينهما ولا تجاوز، فإن بينهما أفضلية طريفة لفائدة الدين والفلسفة وكل ما هو إنساني : مهمة العلم ليست الأرقى بين المهام المعرفية. يتلقى قوانين الطبيعة التي لم يبدعها ويسيطر فقط على ما تتيحه له منها ويستعملها بحسب قوانين الإستعمال التي يجدها. لذلك فالعلم لا يتوقف فقط أمام الموت بل يعجز أيضا إذا لم تفصح القوانين عن ذاتها وظلت منسحبة عنا في عمق الطبيعة.

في كل مرة يسلم الطبيب الأمر ولا يملك سوى المسارعة بتقديم العزاء للميت بعد أن ينتظر إجابة المريض فلا يستجيب للدواءil ne répond pas . وبإمكان أي متفكر أن يطرح السؤال: لم لا يجعل الطبيب المريض مستجيبا لأدويته؟ والجواب ببساطة لأن العلم يشتغل فقط في الطبقة السطحية من وجودنا ليرتب ما هو موجود أولا وما أتاحته الطبيعة. فالعالم ليس مبدعا، العالم محاك سيء للطبيعة وهو أفضل المحاكين. الطبقة العميقة من وجودنا متفقون بشأنها، إذا كنت ملحدا قل هي الطبيعة وإن كنت مؤمنا قل هو الله تعالى، لكنه بالتأكيد ليس الطبيب ولا العالم.

- اليوم كما نرى العلم إلى حد اللحظة مشدوه أمام المرض. والذي يقاومه محض مفاهيم إنسانية لا طبية علمية: حزم الدولة ووعي الشعب والنظام والقانون واحترام القرارات والحيطة والصبر (على ملازمة البيت) والتعقل و..وكلها مفاهيم إنسانية لا طبيعية ولا علمية ولا طبية. لا ننسى بعد ذلك أن العلم المتأخر إلى حد اللحظة في اكتشاف الدواء هو نفسه الذي لم يقدم دواء لألف مرض ومرض، للعمى وللشلل وللبرص وللجنون و و. ولما دون ذلك بكثير، ولا يقصد المريض حتى المستشفى يأسا من دواء ممكن. ويوم يزول المرض.

- السيطرة على المرض توهم بأن المساحة التي ظلت خافية عن العلم وشأنا للدين والفلسفة قد وقعت تحت سلطة العلم، وذلك وهم. إن أي مساحة يكتسحها العلم تمتد وراءها مساحات العجز العلمي بلا نهاية، تماما كما نتوهم أننا سنمسك الغد، حتى إذا كان الغد وبات حاضرا تلاه غد جديد ويظل مفهوم الغد متمنعا أبدا.

كذاك تظل المساحات المتمنعة عن العلم متجددة أبدا، ويظل العلم مقصورا على ما تواضع له من العالم في شكل موجود وضعي، ويظل الدين والفلسفة صنوا العالم غير الوضعي، بلا استعاضة ولا تجاوز.

- أخيرا نعجب أنه بعد عشرات السنين من طرح السؤال حول الدين والعلم في دراستنا الثانوية والجامعية لم نبلغ حتى أن ندرك كوننا بصدد مساحتين معرفيتين مختلفتين لا يصح بينهما الحديث عن استعاضة وتجاوز.

نفهم على الفور أن دراستنا تخمة من الإيديولوجيا وقليل من المعرفة سرعان ما تنكشف سوأتها عند التحديات المعرفية.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات