إسلام القرى وإسلام المرسى …

أحيانا عندما يتحمّس الواحد منّا تنغلق مداركه ويفقد القدرة على الضّبط والتمييز ... يبدو هذا ما وقع لأحد النوّاب في وقفة معارضة للانقلاب بساحة الجمهوريّة بباريس فخبط خبط عشواء في التّمييز بين إسلام التّونسيين بحسب الجهات ... في مفاضلة غريبة بين إسلام القرى وإسلام أهل المرسى ...

ربّما كان يمكن أن نجد له بعض العذر لو تحدّث عن دور أعيان المرسى " البلديّة " في الشّأن العامّ منذ أن تحوّلت المرسى إلى حاضرة للأعيان والوجهاء وأهل السّلطة مقابل دواخل الثّورات والانتفاضات والمجبى ... لكنّ حشر الإسلام في ذلك كان مجانيّا مسقطا ومناقضا لمعطيات التاريخ والجغرافيا والثّقافة والمعارف …

لن نخوض في عبارة إسلام القرى حيث ورد ذكر القرى في سياق الذمّ في العديد من آي القرآن وللاستاذ محمّد الرّحموني دراسة قيّمة في التّمييز بين التمدّن والتبدّي في رؤية الإسلام لأسس بناء المجتمع الإسلامي الجديد ... ولكن نذكر بعض خصائص مدينة المرسى فقط من باب إنصاف حاضرة من حواضر الإسلام في تونس …

ولعلّ ابرز ما يمكن ذكره أنّ المرسى وثيقة الصّلة يالإسلام الشّعبي والرّسمي على حدّ سواء ... فقد اشتهرت بتيّار روحيّ تربويّ نشط في الخلوات والزّوايا وله في التصوّف السنيّ أعلام ومناقب على رأسهم الشيخ عبد العزيز المهدوي الأب الرّوحي للشيخ سيدي أبي سعيد الباجي، الذي استقبل في رحاب زاويته عميد الفكر الروحي و نقيب المتصوفين الشيخ محيي الدين ابن عربي …

وعلى غرار ذلك كانت المرسى إحدى حواضر الجامعة الزّيتونيّة بمعارفها وعلومها وإشعاعها حيث ضمّت أبرز أعلامها ومصلحيها وأصبحت بيوتات كبار العلماء ملتقيات للعلم والمعرفة و من أبرزهم الشيخ خليل بوحاجب الذي استقبل ببيته الشيخ المصلح الإمام محمد عبده، والشيخ العالم المصلح الطاهر ابن عاشور و ابنه الفاضل ابن عاشور والشيخ الطاهر العنابي والشيخ بيرم الخامس ...

لم يكن للإسلام في تونس طابع جهويّ أو قبليّ أو طبقيّ رغم تلبّسه أحيانا بهذه السياقات في بعض أنماط العيش والتّنافس على الوجاهة " قصّة الإمام ابن عرفة الورغمّي مثالا على ذلك " لكن بقي الإسلام يطابعه الرّوحي والمعرفي عابرا للقرى والحواضر موحّدا للبلد رغم كلّ موجات التّغريب والتّحديث القسريّ ...

كان الشّيخ الفاضل بن عاشور أحد رموز الحركة العلميّة والأدبيّة الزّيتونيّة والحركة الوطنيّة والنّقابيّة وكان همزة وصل بين حاضرة المرسى وقرى البلد واعماقها ودواخلها التي جابها طولا وعرضا للتّعريف بالقضيّة الوطنيّة والدّعوة لتأسيس المنظّمة النّقابيّة ... وكان أحد نزلاء السّجن بعد اعتقاله مع ثلّة من الوطنيين إثر مؤتمر ليلة القدر أوت 1946 الذي وقع الإعلان فيه عن مطلب الاستقلال ...

جماع القول أنّ تمييز حاضرة المرسى باعتبار أنّ لها إسلاما مختلفا عن إسلام أهل القرى التّونسيّة هو قول عبثيّ مهما كانت نوايا صاحبه ومقاصده ويفتقد لأيّ سند معرفي أو تاريخيّ ... ويفرّق بين ابناء الوطن الواحد والعقيدة الواحدة …

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات