عندما يكون الغضب عنوان رجولة وشرف إنسانيّ

Photo

ممّا بقيت أذكره عن سنوات القهر أنّني في إحدى سنوات سجني وقع معاقبتي بالزّنزانة الانفراديّة لأشهر مع الحرمان من الزّيارة وكلّ أشكال التّواصل مع العالم الخارجي ، حتّى خشيت على نفسي فيها من الجنون ، قرّرت أن أضرب عن الطَعام للخروج من العزلة، استجابت الإدارة بعد تهديد ووعيد وترهيب وتسويف، ونقلتني إلى غرفة يتجاوز عدد نزلائها الثلاثمائة في مساحة لا تتّسع لأكثر من مائة سجين على أقصى تقدير ، ولكن اختارت لي عقوبة من نوع آخر أشدّ قسوة وتنكيلا من العزلة الانفراديّة ، إنّها العزلة وسط الجماعة حيث وضعت لي سريرا تحت شاشة التَلفزة قبالة كلّ مساجين الغرفة وشدّدت على ناظر الغرفة أمام جميع المساجين أن يمنع عنَي أيّ شكل من أشكال التّواصل حتّى لو كان بإشارة العين ، كنت تحت أعين الجميع ورقابتهم في حصار شامل ، لا يجرؤ أحد أن يخاطبك ببنت شفة حتّى لإلقاء السّلام الصّباحيّ ، أو يقاسمك أيّ شيء حتّى قطعة خبز أو تمرة …

بل ربّما أراد البعض أن يظهروا الولاء لناظر الغرفة والحرس والإدارة بالإمعان في الحصار من خلال وشايات مغرضة تفيد أنّك تواصلت مع ذاك السّجين من طرف خفيّ ، فينادي عليه ليقع إشباعه سبّا وصفعا وركلا ، ثمّ يصبّ عليك بقيّة المساجين جام غضبهم ويتفنّنون في التنكيل بك تزلفا للسجّانين ولاستزادة خبزة أو وقت إضافيّ للفسحة ،

كان المشهد عجيبا وسرياليّا حيث يكون سريرك الذي لا تغادره إلّا لماما في صدر الغرفة والجميع يرمقك ويحدّق فيك ويتابع حركاتك وسكناتك وتقلّبك في فراشك ويحصي عليك أنفاسك، وجهاز التلفاز المعلّق فوق رأسك يبثّ برامجه بأعلى صوته وأنت تحته تتلقّى ذبذباته على قضبان السّرير وصخب برامجه تدمّر أعصابك ، لم يكن أحد من المساجين بما في ذلك مساجين الانتماء وكانوا أقليّة في تلك الغرفة يجرؤ على كسر الحصار المفروض على سجين دمّرت العزلة أعصابه وأنهكت جسده لتسلمه إلى عزلة أشدّ وأنكى، تفنّن فيها النّاظر في ممارسة شتّى أصناف الرّقابة والنّكاية والمحاصرة والعربدة وسط انصياع الجميع وتسليمهم بالأمر الواقع …

وكان من بين مساجين الحقّ العامّ كهل أظنّه من أحد أرياف القيروان سجن من أجل قضيّة تتعلّق بخلاف حدودي حول أرض فلاحيّة ، كان غريب الأطوار ، كثير الصمت والإطراق وتبدو عليه مظاهر الحدّة والاضطراب والانفلات ممّا جعل الكثير يتجنّبونه ، كان ينظر أحيانا باستغراب إلى المساجين وهم يحملقون في طيلة اليوم بكلّ بلاهة ... وكان يجرؤ من حين لآخر على إلقاء السّلام ورمي كلمات التّشجيع من قبيل " ربّي معاك يا أستاذ " ، بل تجرّأ مرّة ليدسّ لي بعض الغلال في سلّة الأكل …

وفي إحدى الليالي الشّتويّة التي لن أنساها أصابتني نوبة سعال وضيق في التنفّس وصداع حادّ ، وكانت كلّ الغرفة في الاستماع ولم يجرؤ أحد على طرق الباب لاستدعاء السجّان لنقلي إلى غرفة التّمريض ، ولا حتّى لتقديم المساعدة ، بل كان النّاظر يتأفّف ويرمرم وينهر حارس الليل الذي أيقظه من النّوم …

في أثناء ذلك فوجئت بذلك الكهل وصوته الجهوريّ الحادّ يشقّ صمت الغرفة ليصبّ جام غضبه على النّاظر والمساجين ويصفهم بأبشع النّعوت وأقذعها ويعيّرهم بفقدان الشّرف والرّجولة ويلعنهم ويبصق في وجوههم، ثمّ دفع النّاظر الذي اعترض طريقه وهو يتوعّده باللقاء خارج السّجن واندفع يدقّ الباب الحديديّ بكلتا يديه ويصرخ " يا حكومة هناك سجين سيموت اختناقا " .

قدم الأعوان بعد فترة من الزّمن وهو لا يكفّ عن الطّرق ، فتحوا الباب فوجدوه قبالتهم والنّاظر وراءه يشتكي من الفوضى والشّغب الذي أحدثه في الغرفة، لكنّه بادرهم بنفس نبرة الغضب

" يا خي أحنا بشر أو كلاب، الرّاجل باش يموت وها الطّ……نة يتفرّجوا هذا ما قالش بيه ربّي " أخرجوني من الغرفة وعدت بعد ساعة لأجد الجميع في انتظاري ، وقد كسر ذلك الكهل الذي نقل من الغرفة الحصار عنّي وانبرى الجميع يسأل ويقدّم المساعدة والعون ، بينما كان ذلك الكهل العجيب حديث تلك الليلة،

لكن ما كسره ذلك الرّجل ليس فقط حصاري بل حصار بقيّة المساجين وحاجز الرّهاب وضعف الرّجولة التي جعلتهم يخشون السجّان وناظر الغرفة الذي كان يعربد كلّ صباح ومساء حتّى جعل حبسهم أضيق من مساحة محبسهم الضيّقة والمكتظّة، غضب ذلك الرّجل وكسر الحاجز النّفسيّ مع الخوف والقابليّة للخضوع والمهانة والرّضى بالذلّ والأمر الواقع … فتململ المساجين وعبّروا عن احتجاجهم على وضع الغرفة … تغيّر النّاظر ونقل سريري إلى وسط الغرفة لأستأنف حياة سجين بوتيرة أقلّ من التّضييق والتّنكيل …

درس بليغ من رجل شريف يفيد أنّ الغضب وإن كان سلوكا انفعاليّا قد لا يملك الإنسان نفسه عند وقوعه لكنّه قد يكون أحيانا حالة صحيّة وعنوان رجولة وشرف إنساني عندما تعمّ الرّداءة والتّدهور.

صدق الشّاعر فاروق جويدة وهو يدعو إلى الغضب:

اغضب … فإن الله لم يخلق شعوباً تستكين

اغضب … فإن الأرض تـُحنى رأسها للغاضبين

اغضب … ستلقىَ الأرض بركاناً ويغدو صوتك الدّامي نشيد المُتعبين

اغضب … فالأرض تحزن حين ترتجف النّسور

ويحتويها الخوف والحزن الدّفين

الأرض تحزن حين يسترخى الرّجال

مع النّهاية .. عاجزين

اغضب … فإنّ العار يسكـُنـُنا

ويسرق من عيون النّاس .. ألوان الفرح

يقتـُل في جوانحنا الحنين

ارفض زمان العهر

والمجد المدنس تحت أقدام الطغاة المعتدين

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات