محاولة في الفهم

Photo

لو لم يسىء المسلمون إلى رسولهم لما تجرّأ عليه وعليهم غيرهم.. ومن الإساءة إليه، عليه الصلاة والسلام، ما فعله ذلك الصبيّ الشيشانيّ الأرعن الذي اتّسعت له فرنسا ومكّنته من اللجوء ومن الحياة الكريمة ولكنّ صدره كان أضيق من "الصبر على الأذى" فاختار بإرادته الواعية أن يكون قاتلا بدعوى الدفاع عن رسول الإسلام كأنّه منتدَب للدفاع عنه بذبح المسيئين إليه.. وهو لم يفعل غير أنْ أضاف بفعلته حجّة أخرى لإدانة الإسلام والهجوم على المسلمين داخل فرنسا وخارجها واتّهامهم بأشنع التهم.. وهم جديرون بها إذا عبّرت عنهم جهة كتلك التي أغرت الفتى بجريمته.

في كل مرة يقع المسلمون فريسة لانفعالاتهم الغريزية، يصنعون أبطالا من لا شيء بسبب جهلهم واضطراب فهمهم وضيق أفقهم.. فلولا الخميني لما ذاع اسم سلمان رشدي في العالم ولما بيعت كتبه بأرقام خيالية.. لقد كانت فتوى الخميني بإهدار دم سلمان رشديّ بسبب كتابه " آيات شيطانيّة" هي الباب الذي دخل منه إلى المجد. ومات الخميني وبقي سلمان رشدي على قيد الحياة يمارس فعل الكتابة ويقرأ الناس ما يكتب مستفيدا من مناخ الحرية في نعيم الديمقراطية الأنجليزية.

ما الذي فعله الفتى الشيشانيّ بذبحه لأستاذ التاريخ الذي جعل من رسوم صحيفة "شارلي هيبدو" المسيئة إلى الرسول الأكرم سندا تعليميا لدرسه ثمّ اعتذر عن إساءته لمّا علم بأثرها في المسلمين؟ هل دافع بجريمته عن الإسلام ورسوله؟ هل أفاد بفعلته المسلمين بشيء؟

إنّه لم يفعل غير إحياء المواقف العنصرية لدى الفرنسيين، وربما الأوروبيين عامّة، ضدّ المسلمين وإثارة كراهيتهم للإسلام وتوفير ذريعة لهم للتنديد بسيفه المسلّط على رقابهم.. وبخطورته على اجتماعهم.

منذ مدة كان الرئيس الفرنسي ماكرون يشتغل على ملفّ المسلمين، وقد جعل برنامجه شنّ الحرب عليهم وعلى دينهم خدمة لأجندته السياسية.. واستهدف التغطية على أزماته المتراكبة بحديثه عن أزمة الإسلام (هكذا الإسلام) وقد علم أنّ المسلمين فصيلان:

- فصيل مأزوم جاهل يشوّه دينه بسوء سلوكه رغم مظاهر التديّن الشكلانية التي يتّبعها… وهذا الفصيل حجّة واقعيّة يستعملها ماكرون في برنامجه لتشويه الإسلام.

- وفصيل تابع لفرنسا منبهر بثقافتها يقول في الإسلام ما لا يستطيع الفرنسيون قوله… وهذا الفصيل حجّة نظرية من صنف "وشهد شاهد من أهلها".

الفصيلان كلاهما حجّتان متضافرتان يستعملهما ماكرون في برنامجه لتطهير فرنسا من الإسلام والمسلمين.

وبدل أن يحاجَجَ ماكرون بثقافته وقيم الثورة الفرنسيّة وشعاراتها المدنيّة ويحاكَمَ إلى الحداثة ومقولاتها جعلوا منه بغبائهم واستلابهم ضحية يستصرخ العالم لنجدة فرنسا من دين يتمدّد بها ويهدّد علمانيتها ونمطها المجتمعيّ.

الحداثة بقدر ما كانت تحرّرا من الغيبيات وخلاصا من اليقينيات حرصت على احترام المخالف ولم تنكر حقّ المؤمنين في إيمانهم ولو كان المعبود بقرة. غير أنّ الفرنسيين، في نسختهم الماكرونيّة، قد ورثوا من ثورتهم صراعا وجوديا بين الدين والحياة، وهم الآن يستأنفون ما كانوا فعلوه بالشعوب التي احتلّوها ونهبوا خيراتها.

يبدو أنّ ماكرون قد أخذته الرعونة إلى المربّع الذي جرّه إليه الشاب الشيشاني فسقط في رد فعل على الإسلام والمسلمين بلا استثناء، وهو بذلك يلعب بنار قد تحرقه وتحرق مشروعه ومستقبله السياسي، فالمسلمون في فرنسا ليسوا فقط ثقلا ديموغرافيا بل لقد صاروا جزءا أصيلا من الشعب الفرنسيّ وقد امتدّ ثقلهم إلى الاقتصاد والثقافة بل إلى التقاليد. ورغم مغالاة الدولة الفرنسية في لائكيتها فإنّ للمسلمين داخل السعب الفرنسي منزلة ليس من الهيّن العبث بها ولو استنفر لها ماكرون ما شاء من الموارد.

قد تبلغ الرعونة بماكرون أن يشنّ حرب تطهير على المسلمين يستدعي فيها إرثه الصليبيّ ولكنّه لن يملك إنهاءها ولو تحالف معه "حركيو" الداخل والخارج من أبناء الحنين إلى نظام الحماية الناعم.

الجرائم الإرهابية لم يستعملها أحد لشنّ حرب استئصال ضدّ دينٍ أنصارُه في كلّ مكان من الكرة الأرضيّة لأنّ قوانين الأرض والسماء لا تأخذ أحدا بجريرة غيره. وماكرون إن لم يثب إلى عقله سيتورّط في تهديد البشرية بحريق شامل تهون أمامه أهوال الحربين العالميتين الأولى والثانية.. وسيكون بدوره حجّة يستعملها المتطرّفون لإشعال نيران لن يكون من السهل إطفاؤها.

وفي ذلك يلتقي التطرّف بالتطرّف.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات