من تعفين البرلمان إلى تعفين الشارع

منذ أن جاء جعل مؤسّسة البرلمان، السلطة الأصليّة، له هدفًا ليتخلّص منه وليحلّ محلّه يشرّع لنفسه ما يريد تحت شعار "الشعب يريد"... أرسل عليه الفاشية فحوّلته بردحها إلى حظيرة.. ولمزيد التعفين استدرج إلى المشهد الكتلة الديمقراطية وأوكل إلى سامية عبّو أن تستكمل بصراخها ما بدأته عبير موسي بعوائها.. وبذلك فقد برلمان الشعب منزلته وتحوّل، أمام الأنظار، إلى عامل موتّر للمزاج العام.. وكان الأمر مقصودا.

بعد أن أثخن في البرلمان أجهز عليه بانقلابه.. ولم تكن قراراته الاستثنائية سوى امتداد لما كان بدأه من أعمال ضدّه وضدّ رئيس الحكومة هشام المشّيشي الذي عيّنه بنفسه، ولكنّه لمّا التزم بالدستور وصلاحياته التي نصّ عليها وامتنع عن أن يكون مجرّد وزير أوّل له، خنقه ثمّ اختطفه وأخفاه قسرا حتّى بقيت الدولة بلا حكومة.

حسم المعركة التي كان وراءها بشكل من الأشكال عندما رفض أن يكون حَكَمًا يتدخّل لتنقية البرلمان ممّا أصابه.. ثمّ مضى، بعد ذلك، إلى الشارع لتعفينه فقسم الشعب إلى شعبين: شعب أنصاره الوطنيّين الأخيار وشعب معارضيه الخونة الأشرار.

استولى بحيل نصيّة لا مرجع لها على المؤسسات الصلبة في الدولة وجعلها تابعة له تأتمر بأمره واتّخذ من الأجهزة الحاملة للسلاح اليد التي يبطش بها بخصومه من أجل أن يحسم المعركة لصالحه بالقوّة.. قوّة سلاح الدولة التونسية التي لا يرى فيها غير نفسه.

كلّ المستبدّين ينكرون استبدادهم.. فهم القانون الذي يجب تطبيقه على الجميع إلّا عليهم وعلى حواشيهم.

لا أحد من الظالمين اعترف بظلمه.. كلّ الذي يفعلونه محاربة للفاسدين ومعاقبة للمخرّبين وملاحقة للمجرمين.

الدكتاتور يتحدّث بخطاب لا مرجع له إلّا في رأسه.. فهو منتدَبٌ لتحقيق الفضائل مجتمعة.. يريد ويعرف ما يريد.. وحتّى التاريخ ترك كلّ العالمين وجاءه يسعى وأسلمه طينه ليعيد صناعته كما يريد.. بعد أن لم يجد من يصنعه ولا ما يصنعه.

بن علي أمضى ربع قرن من الزمان يعبث بالبلاد.. وقد استعان به، من قبلُ، لتسوية دستور 1959 على مقاسه تشريعا لعبثه.. ولمّا انتفض الشعب عليه لم يتفاعل معه بغير "فهمتكم".. كذا المستبدّون الذين يستهينون بشعوبهم لا يفهمون إلّا بعد فوات الأوان.

عسى أن يكون آخر عقبة في طريق انتقال البلاد إلى ديمقراطيتها.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات