الدولة المسمّاة وطنيّة : أخطر الألغام التي تركها المستعمر

1.بدأت، مع الأيّام تحصل لي قناعةٌ مفادُها أن الدولة الناشئة بعد حقبة الاستعمار المباشر المسمّاة وطنيّة إن هي إلّا حيلة احتالتها الأنظمة الاستعمارية على مجالنا العربيّ وهي من أخطر الألغام التي تركها المستعمر ناشبة في أقطارنا مثل خناجر مسمومة تتنافس نهش الإنسان، تقمع الحريات وتمنع الأمّة من الانعتاق. تكفّر الناس وتعاقبهم على الكفر بها وإن انضبطوا لقوانينها الجائرة وأسلموا لها رقابَهم. هذه الدول كأنّها أجهزة معطَّبة " خردة" جيء بها لمعاقبة الشعوب التي خاضت حروب التحرير الوطنيّ.. هذه أجهزة للثأر من الشعوب وليست دولًا.

2. ولأنّ الدولة "الوطنية" دولة وظيفية ترث الاستعمار فينا فلا معنى لشكوى ما تأتيه من ظلم في حقّ الإنسان الذي تحكمه وتتحكّم فيه كما لا يتحكّم خالق في مخلوقه. الظلم أصل في هذه الدولة وشرط وجوديّ لها لا تعيش بدونه، لأنّها، ببساطة، مكلَّفة به، كمن يحرس صخرة عند باب يمنع ساكنيه من كلّ صوت وحركة حتّى يموتوا مكتومين.

الدولة مكلَّفة بالظلم حتّى يستمرّ خراب عمران ما تحكم، فهي حاجز يحول دون العمران. الحرية شرط الإنسان، والدولة التي لا ترى لها معنى إلا في سلب الحريات لا تبقي على الإنسان لأنها لا ترى لها معنى إلّا في سحقه، إذ في وجود الإنسان عدمُها وفي عدمِه وجودُها.

3. قرأنا، ونحن صغار، أقصوصة لعلي الدوعاجي عنوانها (مجرم رغم أنفه). اليوم لا نحتاج إلى خيال علي الدوعاجي لنرى مجرمين بلا جرائم. واقع دولتنا يغنينا عن كل خيال لأنّ ما تأتيه في حقّ الناس من مظالم يفوق الخيال. فجميع الذين تنكّل بهم من المثقَّفين والسياسيين والإعلاميين مجرمون عندها، ولا جرائم لإدانتهم بمنطق العقل والقانون.

وقد كتبت الأستاذة المحامية إسلام حمزة على حسابها تدوينة/شهادة جاء فيها سؤال موكّلها الحبيب اللوز لها " عيش بنتي قل لي: علاش حابسينّي؟". وهو سؤال رهيب أمرّ من سؤال البغلة في طريقها.

في تساؤل الرجل السجين الذي لا يعرف، إلى حدّ الآن، سبب سجنه مرارة كبرى تتعدّاه إلى كلّ ذي حسّ سليم يحترم الإنسان في حدّه الأدنى. وإذا انتشرت المرارات بهذا الشكل العاري الذي نرى عمّ الخراب، وإذا عمّ الخراب لم ينج منه ظالم ولا مظلوم.

4. السجين في دولتنا لا يعرف تهمته التي لأجلها سُجن، وحين يستخبر محاميته تعجز عن إخباره لأنّها بدورها لا تزال تفتّش فلا تجد له تهمة،

ومتى يقع هذا؟

في القرن الحادي والعشرين، قرن الحقوق والحريات والقيم الكونيّة الجامعة والانفجار الإعلاميّ والسماوات المفتوحة !

5. لا يلزم أن تكون مذنبا لتعتقلك الدولة في مجالنا العربيّ "المدولن"، يكفي ألّا تنال رضا الحاكم لتُلقى في غيابات السجن حتى تُنسى كأن لم تكن. والحاكم لا يحتاج إلى قرينة ليدين من يريد إدانتَه، وإذا قرّر الحاكم إدانة أحد فلا قرينة تصلح لتبرئته، ولو كان ميتا قبل قرار إدانته. لا حصانة لمواطن ولو كان، أمس، وزيرا يُنفِذ قرارات الحاكم ذاته، ولا حصانة لقاضٍ لا يرى مجرمًا من قرّر الحاكم أنّه مجرم ولو أنّ الحاكم هو الذي عيّنه.

6. لماذا كلّ هذا؟ ما هي الغاية منه؟

كلّ ما في الأمر أنّ الحاكم يحتاج إلى ملء فراغه بنوع من التسلية.. يتسلّى الحاكم بالدولة يستعملها في جلب مخالفيه وفي التنكيل "بالمخيَّر فيهم". من حقّ الحاكم أن يستقويَ بدولته على من لا يراهم أهلا لدولته.. ما دام لا يعرف كيف يسيّر دولته.. يسيّرها بدمائهم ودموع عائلاتهم، وذلك يكفيه.


• الحاكم يحتاج إلى مجرمين ليكون هو المؤدِّبَ،

• ويحتاج إلى فاسدين ليظهر في مظهر الصالح المصلح،

• ويحتاج إلى خونة لتتجلّى بهم وطنيتُهُ،

• ويحتاج إلى ظلاميين ليكون هو صانع التنوير،

• ويحتاج إلى أهل غيبوبة ليكون هو أهل الصحو.

• وبضدّها تُعرَف الأشياءُ.

الحاكم يحتاج إلى إبل مسلوبة ضائعة في الصحراء ليظهر على الناس في مظهر البطل الذي يردّ السلَبَ.. يدرّب اللصوص على سلب الإبل، ولكنّه يعجز عن اللحاق بهم ليظهر في مظهر بطل الاسترداد.. يكفيه من أمره شتم اللصوص لينام قرير العين.

7. الحاكم الذي لا يجد عملا نافعا يصنعه يودع الناس في السجون في انتظار أن يعثر لهم على تهمة تجعل لسجنهم معنى. ومن انعدم إنجازُه انطلق لسانه ليصم الناس بقبائح. يجعلهم أهلا لكلّ اتهام

ولا يترك عليه واجبا لهم.

إذ لا حقّ للشياطين على ملاكٍ يحتكر طهارة الأرض ومدد السماء.

8. الحاكم يرى نفسه مرسلا لحفظ الدولة، يحفظها بقهر الإنسان. وما الدولة سوى الحاكم نفسه، يسلب حرية خلق الله أن يكونوا مجرمين، ينغّصوا عليه نومتَه على سرير دولتِهِ.

فلتحيا الدولة/الحاكم ولو مات الجميع.

وقديما علّمنا ابو فراس:

إذا متُّ ظمآنا فلا نزل القطْرُ
ولا كانت دولة.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات