الدفاع عن الفاشيّة

Photo

لم أكتب في معركة لطفي العبدلّي مع الأزلام لأنّني رأيتها معركة في اتّجاه الانحدار ومن يشارك فيها لا يأمن أن يسقط مساقط الجهتين: جهة السقوط وجهة الأسقَط... غير أنّ هذه المعركة تدحرجت إلى مستويات تجعلك لا تملك نفسك من أن تقول فيها رأيا:

أسفرت حرب "القلاصين" المستعرة عن جهتين:

- جهة تنتصر للحرية ولو كانت بلا حدّ…

- وجهة تنتصر على الحرية ولو كان انتصارهم لمصلحة الفاشيّة…

أعداء الثورة هم أنفسهم أعداء الديمقراطية.. الحرية لدى هؤلاء لا حدّ لها ما دامت تسمح بنهش غيرهم ولا قاع لها ما كانت سلاحا يُستعمل في ذبح خصومهم ويساعدهم عليهم…

لقد تعوّدوا على أن يكون كل شيء في خدمتهم لأنّ البلاد كانت ضيعة لسادتهم وكانوا هم نواطير لها ينام سادتهم ولا ينامون عنها.. مخافة أن تسكت زغاريد القيان في حضرة صانع التغيير…

هؤلاء كانوا من جوقة النظام السياسي الذي نجح، بفضل حراستهم، في تأميم كلّ شيء وابتلاع كلّ مرفق والاستيلاء على كلّ معنى.. بل صار هو المعنى وصار سواه لا معنى... من هؤلاء أبناء النظام "الشرعيون" أنتجهم من أرحام عقد عليها ففرّختهم ليباهيَ بهم يؤاكلهم ثمرات مغمّسة بدماء من ليس منهم،

ومنهم أبناؤه "غير الشرعيين" وهؤلاء كانوا يتحرّكون في فلكه ابتعادا واقترابا لا يفسد منه انتظام النظام.. منهم السياسيون والنقابيون والمثقَّفون والفنّانون..

وقد كان بين "الشرعيين" وغيرهم تقاطعات بنُوّة لا يخرجون عليها.. وجميعهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق يفرحون ويمرحون ويسافرون ويثرثرون.. يتكلّمون ويسكتون وفق إيقاع مرسوم لا يخرج عليه منهم أحد... ولا تزعجهم أوجاع بأمعائهم كانت إذا ثارت عليهم عاجلها النظام اليقظ بالدواء.. ومن الدواء ما كان مرّا ككثير من الدواء…

لمّا قامت الثورة التحق هؤلاء بها ليلعبوا أدوار الأبطال كأنّهم فاعلوها.. يمجّدونها كأنّهم صانعوها بعد أن كانوا يمجدّون صانع التغيير.. ولمّا كانوا أشبه بدواب في حظيرة زالت عنها جدران حظيرتها، فقد انطلقوا في كلّ اتّجاه يكرعون من مياه الحرية بلا حساب.. جاءت الثورة بحرية لا سقف لها فكان هؤلاء أكثر الشاربين من مياهها…

وما ألذّ الحرية، عند هؤلاء، حين يكون الحاكم خصما ديمقراطيا تفرّد بالحرمان من الحرية فعرف معناها وأجزل العطاء منها.. وإذن فقد انطلق هؤلاء السياسيون والنقابيون والمثقَّفون والفنانون يأكلون من لحم أولئك بلا رادع...

إنها الحرية، يا مولاي، وهم قوم يمارسون حريتهم.. ولمّا كانوا لا يفهمون للحرية معنى ولا يدركون لها قدرا فقد كان تعاطيهم معها تجريبا وتخريبا.. بلا حدود…

وقتها كانوا يفاخرون بأنهم "ضدّ السلطة"…

• ازدروا الأديان..

• وشتموا الرؤساء..

• وشوّهوا الشرفاء..

• وهاجموا الوزراء..

• وهدّدوا بالدماء..

• وخرجوا عراة في الطريق العام..

• وظهروا عراة على المسارح…

جعل توفيق بن بريك له ولرفاقه صحيفة عنوانها "ضدّ السلطة" ظلّ يأكل بها من السلطة.. لم يترك رسما إلا رسمه على صفحاتها ولا كلمة إلّا كتبها ولا تعبيرا أسعفه إلّا عَبَرَ به إلى غايته.. ولم يلتفت إليه أحد ولا ذكره الذاكرون..

وبلغت به خسّته أن كتب كتابه الشهير "كلب بن كلب" الذي كان يقصد من عنوانه رئيس الجمهورية الأسبق الدكتور محمّد المنصف المرزوقي.. ولمّا لم يلتفت إليه من ضحايا قريحته أحد طلع على الناس من الشاشة مثل كلب عقور سائب.. وظلّ ينبح حتّى استنفد صوته.. ولكن لم يعبأ به أحد.. وانتهى به الأمر إلى أن سكت صوته عن النباح المباح وجفّ قلمه عن النهش.. حينها أخذ يناوش القضاء ليلتحف ببطولة لا تريده…

لم يسلم مقدّس ولا مدنّس من أذى محدَثي الحرية هؤلاء في حكم الترويكا.. ويشهد التاريخ بأنّ الرئيس المرحوم الباجي قايد السبسي لم يأمن من هجومات هؤلاء ولكنّه كان أكبر منهم فتركهم لشأنهم حتّى لازمتهم أحجامهم…

وقاحة لطفي العبدلّي ليست جديدة عليه.. وسماجته جزء من هويته.. هو ليس فنّانا ولا علاقة له بالمسرح أصلا.. قد يوصف بأنّه مهرّج يستعمل البذاءة للإضحاك... يسخر من هيئات الناس التي خُلقوا عليها.. يتهكّم من أصواتهم التي لا مسؤولية لهم عليها.. ويحاكي حركاتهم.. دون أن يبنيَ جملة فنيّة واحدة يصدق عليها اسم المسرح…

لقد جعل السقوط خبزته.. ينقل ما يجري بين الأصدقاء في مجالسهم إلى المسرح.. وعادة ما ينشأ الضحك من قول في غير موضعه كأن يغنّيَ أحدهم في مسجد أو يرفع الأذان في حانة أو يتعرّى شخص بين الناس في الطريق العامّ…

ما يفعله لطفي العبدلّي ليس فنّا إنّما هو التفاهة.. ومن التفاهة ما يُضحك.. يذهب إليه الناس ليتخفّفوا من أوزارهم بالضحك.. يضحكون ليأكل هو الخبز.. وقد جعل رزقه أنّ الناس منه يضحكون…

في مناخ مشبع بالحرّية يجوز للطفي العبدليّ كلُّ قول وكل حركة... فهو مثل غيره ممّا تُنبت مياه الحرية المنسابة.. والحرية التي سمحت بظهوره فوق ركح المسرح هي ذاتها الحرية التي سمحت لعبير موسي بأن تصعد على ركح السياسة وتكون في مرمى العبدلّي ومرمى غيره مثل غيرها من سياسيّي العهد الثوريّ... وبفضل الحرية عرفهما كثير من الناس ( أنا شخصيّا لم أعرفهما إلّا بعد الثورة).. هما كلاهما من الغثاء.. والغثاء أسرعُ إلى الطَّفْوِ فوق الماء.. وكثيرا ما يصطدم الغثاء بالغثاء على سطح الماء…

ولكن هل يأتي النفع، يوما، من الغثاء؟

حادث الاصطدام الأخير كان امتحانا للحرية وميزا للفاشية..

الناس كانوا يعرفون أنّ عبير موسي، مستخلَص دنس نظام بن علي، فاشية.. ولكنّ كثيرا منهم كانوا يظنّون أنّها معزولة لا محيط لها.. ولقد كان من مزيّة لطفي العبدلّي أن نزع الغطاء عن هؤلاء فكشفوا عن فاشيتهم.. هؤلاء الذين قطعوا "خبزة" الممثّل هم جنود الفاشية عبير موسي لأنّهم غضبوا لها كما لم نعرف لهم غضبا لغيرها…

لقد كان الدكتور منصف المرزوقي ديمقراطيا فلم يسندوه.. وكان الباجي قائد السبسي ليبراليا فلم ينصروه.. وكان الأستاذ راشد الغنّوشي ديمقراطيا فلم يسعفوه…

لم يستثن الفنّانون أحدا من سخريتهم وقد جعلوا الجميع في مرمى إضحاكهم ولمّا اقترب لطفي العبدلّي من الفاشية عبير موسي هبّت الحرافيش هبّة واحدة لحماية لباسها الداخلي ووقفوا حرّاسا ل"قلصونها".. أمّا الآخرون رجالا ونساء.. صغارا وكبارا فلا "قلاصين" لهم.. ولا بواكيَ على من لا "قلصون" له…

لقد انتصروا لأوسخ سياسيّة بُعثت من زغاريدها لتلعن الثورة وتهاجم الشعب ولتزرع الكراهية وتبذر الأحقاد ككلّ المكلَّفين بإفساد الثورات... وما قاله توابعها في شأن رئيس البرلمان وفي حقّ نائبات البرلمان ونوابه وقاحة وخسّة وسوء أدب وقِلّة حياء ولكنّ أحدا من هؤلاء الأوغاد لم تثر له ثائرة وظلّوا يشاهدون المعركة في التذاذ وهم ينتظرون أن تسقط الديمقراطيّة على غير أيديهم، شُلَّت أيديهم…

لطفي العبدلّي مهرّج تافه ولكنّه بما فعل كشف أمرين:

- كشف ضعفه الفنّي... لا تعني الكوميديا له شيئا غير التفتيش في "قلاصين" الناس ليضحك منه الناس…

- وكشف أنّ هؤلاء المناصرين لعبير موسي ما هم سوى أنصار للفاشية وتوابع للرداءة وأدوات للدكتاتورية... الحرية لا تليق بغيرهم والدكتاتورية ليست معيبة ما دامت توفّر لهم الرغيف... ولو كان مغموسا في ذلّهم.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات