الشعب يريد أن يحرق…

1. جاءتنا مرويّات القدامى بأنّ طارق بن زياد لمّا عبر البحر إلى بلاد الأندلس أحرق المراكب وخطب في جيشه فقال:

أيها الناس، أين المَفَرُّ؟ البحرُ من ورائكم، والعدوُّ أمامَكم وليس لكم واللَّهِ إلا الصدقُ والصَبْرُ. واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أَضْيَعُ من الأيتام في مَأْدُبَةِ اللِّئام، وقد اسْتَقْبَلَكم عدوّكم بِجَيْشِهِ وأَسْلِحَتِهِ، وأَقْواتُه موفورةٌ ، وأنتم لا وَزَرَ لكم إلا سيوفُكم ولا أقواتَ إلا ما تَسْتَخْلِصُونَه من أيدِي عدوِّكم، وإِن امْتَدِّتْ بكم الأيامُ على افتقارِكم ولم تُنْجِزوا لكم أمراً ذهبتْ رِيحُكم، وتَعَوّضَتِ القلوبُ من رُعْبِها منكم الجَرَاءَةَ عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خُذْلانَ هذه العاقبة من أمركم بِمُنَاجَزَةِ هذا الطاغية .

2. بهذا يكون طارق بم زياد هو أوّل من علّم سكّان جنوب الماء فنّ الحرقة إلى شماله…

وبفضل تلك "الحرقة" لبث العرب المسلمون في بلاد الأندلس ثمانية قرون كانت خميرة لكلّ هذا التقدّم الذي يقوده شمال الكرة الأرضية.

3. حدّثني أخي، بينما كان ابنه ذو الأربع عشرة سنة يمرّ من أمامنا، قال:

- قلت له خذ خمسة ملاين احرق بيهم ما حبّش.

- ويهون عليك ترميه للبحر؟

- ولد خالك فلان حرق، بعد شهرين بعث إلى والده عشرين مليونا...

كان ذلك جواب أخي..

قريتنا من بنات الصحراء وقليل من أبنائها يحسنون السبحَ في الماء.. وقد صار حديث الحرقة فيها من أكثر الأحاديث رواجا بين شبابها وبعض كهولها.. الكبار، والصغار، والنساء، والرجال.. وحتّى الأطفال يعرفون فنون الحديث عن "الحرقة".

ولأخي الآخر ولد.. صبيّ لم يجاوز العاشرة من عمره يتحدّث عن الذين حرقوا كما لو كانوا أبطالا..

4. شباب في أعمار الزهر، منهم من أتمّ تعليمه ومنهم من كره المدرسة وضاق بالمعهد، جعلوا البحر أقصى أمانيهم وليس بغائب عنهم أنّه أقساها على الشابّ وعلى أمّه وأبيه.

5. في بعض النواحي حرق فتى قبل الثورة وفُقد في أعماق الماء لم يخرج مع الناجين ولا مع الهالكين... فسكت والداه عن مباح السؤال عنه... لعلّهما يمنّيان نفسيهما بأنّ معجزة ما تدّخره لهما لمسرّة آجلة... حين أرى الأمّ أقرأ على وجهها ملامح من يتجرّع السمّ يعيش عليه... سمّ الفقد والقلق الممضّ... مذ حرق ابنها ألقى بها في حريق لا أراها تجد نفسها يوما خارجه…

6. يحرق الأبناء فتحترق أكباد الأمهات والآباء... حين أتخيّلني في مكان تلك الأمّ أشعر كأنّما أصّعّد في السماء يبتلعني ثقب أسود أرى سكانه من أمهات احترقت أكبادهنّ بحريق أبنائهنّ.

7. طارق بن زياد أحرق مراكبه غازيا وظلّ العرب ثمانية قرون يحكمون الأندلس التي أحرق مراكبه عند سواحلها... وشباب تونس يحرق وثائق هويته فيحترق ويشبّ لهيب النار في أكباد الأمهات والآباء... ثم تقبض عليهم سلطات ما فوق الماء وترحّلهم قسرا ليقبض المنقلب ثمن الشحنة يشتري به شحوما لتدوير آلته الصدئة التي لا تسمن ولا تغني.

8. سنبقى هنا قابضين على جمر الانقلاب حتّى ينطفئ جمره... لن نترك له البلد يعبث به...تلك خيانة للذين سبقونا بالتضحيات…


ولم يحرقوا
وبفضل سبقهم
نعيش.
ولا نحرق.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات