السور !!!

Photo

يعود السور، وهو سياج يحيط بالبيت أو البستان أو بالمدن القديمة، إلى مرحلة قديمة من تاريخ البشرية. وكان الدافع إليه أمرين : الأول الخوف من الآخر، وبخاصة في ما يتعلق ببيت العائلة القديم والمدن التاريخية العظيمة، كدمشق والقدس وحلب، وغيرها من مدن الشرق والغرب القديمة، حيث تحاط المدنية بسور حولها، وبقلاع لحمايتها، وللسور أبواب للدخول والخروج منها، أي المدن.

وإذا كان سُوَر البستان قد استمر للدلالة على الملكية، كما هو حال سُور البيت، فإن أسوار المدن قد زالت مع الأيام لزوال الحاجة إليها، وصارت جزءاً من الماضي، وأثراً من آثاره، وموضوعاً للسياحة.

غير أنه مع بدء الاستيطان الاستعماري الصهيوني، نشأ السور مرة أخرى، بدافع الخوف من السكان الأصليين، وانعكاساً لعقلية الغيتو المتوارثة عن اليهود. أجل، لقد قامت الحركة الصهيونية ببناء المستعمرات - المستوطنات المسورة، حيث تقوم عمارة المستوطنة على بناء السور أولاً وبواباته، ثم بناء برج مراقبة عالٍ ليحرس المستوطنة ليلاً نهاراً، ثم القيام بعملية بناء المساكن داخل المستوطنة والأبنية الخدمية لها.

وبعد فشل السلطة الإسرائيلية في الحد من كفاحات الشعب الفلسطيني، شرعت في بناء جدار الفصل العنصري حول إسرائيل، لتفصلها عن الضفة الغربية، وهو سُور بالمعنى القديم للكلمة، بحيث تحولت إسرائيل كلها إلى مستوطنة كبيرة بعد بناء السور.

ولقد نسيت العرب أمر أسوار المدن، إلى أن أعلنت السلطة في العراق عن بناء سُور حول بغداد، وشرعت في تنفيذه، وهي المرة الأولى التي يفكر فيها نظام عربي في بناء سُور حول العاصمة أو غيرها من المدن. وبناء السور تم بناء على الخوف والدفاع عن المدينة.

وبغداد هذه، التي بناها المنصور بين 762- 764، جعل لها أربعة أبواب، هي باب خراسان وباب الشام وباب الكوفة وباب البصرة، وكانت حاجتها للأبواب كحاجة أي مدينة في ذلك العصر. لكن بغداد اليوم هي ثاني أكبر مدينة عربية، بعد القاهرة، في عدد السكان، وربما كانت مساحتها، أكبر من مساحة القاهرة، لأنها مدينة منبسطة.

وهذا يعني أن سورها سيكون بمئات الكيلو مترات، ويحتاج إلى عشرات البوابات. ويعلن أصحاب القرار أن الداعي للسور، هو حماية بغداد، وتحقيق الأمن لسكانها، خوفاً من العمليات الإرهابية. ولكن ألا يتحقق أمن بغداد إلا بسور حولها؟

والحق أن تحقيق الأمن لبغداد عبر السور، ليس عجزاً أمنياً، بل هو المعبر عن العجز السياسي. فليس الأمان من الخوف عملية تقنية في الحالة العراقية، بل عملية بناء دولة الجميع، وتجاوز العقل الطائفي المليشياوي المدعوم إيرانياً.

تحقيق الأمن في بغداد وغيرها عملية سياسية حول مستقبل العراق الوطني وتحرره من التبعية، تحرره من عقل المليشيات التي أصبحت سلطة حقيقية، حالت دون قيام الدولة واحتكارها للقوة، تحررها من الفساد الذي حرم العراق من توظيف أمواله للتنمية، تحرير العراق من الطائفية والحقد الطائفي، في توحيد العراق لمواجهة الأخطار عبر عصبية وطنية جامعة.

أما ثقافة الأسوار الغيتوية، فهي ثقافة الانعزال التي لن تنجب إلا مزيداً من الخوف، ومزيداً من الإرهاب، ومزيداً من الدمار، وبالتالي، مزيداً من تشرذم العراق وفقدانه قراره الوطني.

بل إن تجربة سنوات طويلة بعد نشوء السلطة في العراق أثناء الاحتلال، واستمرارها بعد الاحتلال، وممارساتها عبر سنوات طويلة كافية لإقناع جميع القوى السياسية غير المليشياوية، باستحالة حكم العراق طائفياً، وإقصاء نصف سكان العراق عن الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية.

أما آن لشعب العراق أن يقرر مصيره بنفسه، ودون أن يفكر بالأسوار.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات