ما الفلسفة..

Photo

ما الذي حمل الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز وصديقه فليكس جتاري على إعادة طرح سؤال ما الفلسفة في كتاب يحمل العنوان نفسه؟ ما هو مبرر إعادة التساؤل عن الفلسفة بعد ثلاثة آلاف سنة تقريبا على ولادة الفلسفة؟ ليس في نيتنا الإجابة عن سؤال ما الفلسفة، وإنما فض السؤال والكشف عن دلالاته، وذلك في البحث عن الشروط التي تجعل السؤال ما الفلسفة ممكنا.

ما من فيلسوف يسعى لإبداع قول جديد في الفلسفة إلا ويطرح على نفسه سؤال ما الفلسفة سواء جاء السؤال صريحا أو مضمرا. فالفيلسوف عندما يكتشف سؤالا جديدا، أو يعيد طرح سؤال قديم، ويعمل على صياغة الجواب فإنه يقدم لنا تحديدا جديدا للفلسفة، يقدم الفلسفة كما يراها، وكأنه يجيب عن السؤال: ما الفلسفة. إنه يقدم لنا طريقة في التفلسف، ويظل في حقل ماهية الفلسفة بوصفها نظرة الى العالم ومنهج في التفكير. الفلسفة منهج في التفكير. حكم تعريفي لا يقول بعد شيئا عن المنهج والمفاهيم بشكل خاص. ينتقل هذا التعريف المجرد الى المتعين حينما يعيد الفيلسوف طرح السؤال: ما الفلسفة. إنه، أي الفيلسوف، حين يذهب الى المتعين ليمتلكه نظريا يجب عن السؤال: ما الفلسفة. دعونا نقول: إن سؤال ما الفلسفة هو نفسه سؤال ما المنهج الذي يسمح لنا بامتلاك العالم نظريا، وما لمنهج سؤال حول المفاهيم المجردة التي صاغها الفيلسوف بوصفها تعبيرا عن الواقع وتأكيدا لوحدة الفكر والوجود. فالفيلسوف وهو يكتشف المشكلة يكتشف معها أدوات تناولها، أي العدة المعرفية لامتلاكها نظريا.

كان الوجود، بكل دلالاته، وما زال مشكلة فلسفية، غير أن الزاوية التي نظر من خلالها الى الوجود حددت على نحو ما منهج التفكير بالوجود، وحقل المفاهيم المعبرة عنه. فحين نظر اسبينوزا الى الوجود بوصفه واحدا لحل مشكلة ثنائية الوجود عند ديكارت، صار لديه مفهوم الجوهر الواحد والصفة والحال والقائم بذاته وسبب ذاته والطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة والضرورة. لكنه، عمليا، كان يجيب على سؤال ما الفلسفة بحيث لو سألنا ما الفلسفة عند اسبينوزا؟ لأجبنا بكل اطمئنان: الفلسفة عند اسبينوزا هي معرفة الوجود بوصفه جوهرا قائما بذاته، وسبب ذاته، ومعرفة صفاته وأحواله التي تصدر عنه بالضرورة. هذه المفاهيم تشكل أسس منهج اسبينوزا الفلسفي.

في حين تناول هيغل مشكلة الوجود من زاوية أخرى مختلفة جدا، ذلك انه، اي الوجود، سيرورة الروح أو الفكرة المطلقة أو العقل، سيرورة الوعي والمجتمع والفكر وعلى نحو ديالكتيكي، والديالكتيك هو حركة الواقع نفسه، وبالتالي صار منهج المعرفة هو ذاته طبيعة الوجود، وهذا هو معنى وحدة الفكر والوجود عند هيجل. وقس على ذلك النظر الى مشكلة الوجود بوصفها مشكلة الوجود الانساني، مشكلة الكائن في عدمه وقلقه واغترابه وحريته والدخول الى تناوله فنيومينولوجياً. ولما كانت كل فلسفة امتلاكا للواقع، وللواقع المحدد تاريخيا، واكتشافا للمشكلات الحقيقية، ولما كانت الفلسفة ذات أجوبة كلية فإنها متجددة على نحو دائم، ولهذا تعود الى مساءلة نفسها على نحو مستمر بل وطرح السؤال عن جدوى الفلسفة عموما.

ففي الوقت الذي كانت فيه الماركسية تطرح نفسها على إنها فلسفة التاريخ المادية، أو الفلسفة المادية الديالكتيكية كانت الوجودية بقسميها المؤمن والملحد تطرح مشكلة الانسان الفرد بعيدا عن الحتمية التاريخية، كانت تقدم مفهوما جديدا للفلسفة مختلفا مبرزة حرية الكائن واغترابه. ثم ما لبثت الفلسفة أن أخذت عن الدراسات الانثروبولوجية مفهوم البنية وصاغت مفهوم البنيوية حتى انه ماركسيا كـ (ألتوسير) صار بنيويا. وشاعت البنيوية كاتجاه فلسفي في مباحث النقد الأدبي. وليست البنيوية الا منهجا في التفكير انطلاقا من ان العالم بالاصل موجود على نحو بنيوي. فالماركسية والوجودية والبنيوية ليس إلا اعادة طرح السؤال عن الفلسفة. ثم جاءت فلسفات ما بعد الحداثة لتعيد السؤال الفلسفي الى وضع السؤال المشكلة. وبخاصة مع التفكيك الذي طرح تجاوز فلسفة المركز، سواء مركزية العقل أو مركزية اللوجوس أو مركزية القضيب. والبدء من مفهوم الاختلاف.

والحق ان طبيعة الفلسفة هذه بوصفها إجابات كلية تأخذ طابع المنهج وبوصفها متجددة الأسئلة والأجوبة هو الذي يسمح لها بالارتحال خارج حدود نشأتها، انه انتقال الكلي الذي يكتسب بعدا معرفيا متجاوزا للثقافات. غير أن انتقال الفلسفة منهجا للتفكير لا يعني استيراد المشكلة بل إغناء المنهج انطلاقا من المشكلات المعيشة والمحددة تاريخيا لدى هذه الثقافة أو تلك، كما يسمح انتقال كهذا باكتشاف السؤال وبالتالي البحث عن جواب كلي.

إن سؤال ما الفلسفة يسمح للفيلسوف ان يطرح السؤال في صيغة امتحان المنهج الفلسفي والمفاهيم الفلسفية، انه تعبير عن الحس النقدي الملازم دائما للفلسفة ولكل فيلسوف يسعى للحضور الجديد. بل إن السؤال ما الفلسفة نوع من الاستعداد لقتل الأب الذي دون عملية كهذه لا يتجدد الخطاب الفلسفي، حتى لو كان قتل الآباء يتم عن طريق بعث أب قديم كان يظن أنه قد لفه النسيان .

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات