العولمة : مراكز بلا أطراف

Photo

وفي كل محاولة فهم العالم عبر مفهوم الامبريالية كان العالم غير الإمبريالي حاضراً في آراء الفلاسفة والسياسيين ، عبر مفاهيم دالة عليه أي على عالم غير الامبريالي وغير الشيوعي أقصد بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية كالدول النامية أو المتخلفة أو دول العالم الثالث أو دول عدم الانحياز أو الدول حديثة الاستقلال أو المستعمرات القديمة الخ ..

لقد أخذ الخطاب السياسي والأيديولوجي هذا العالم بعين الاعتبار في خطابات المراكز، فالدول النامية حملت معنى مضمراً يفيد بأنها على طريق النمو وقادرة على تحقيق التنمية الاقتصادية أو قادرة على القيام بعملية التحديث التي توصلها إلى عالم أرقى يحاكي عالم المراكز .

فبينما عنى العالم المتخلف العالم الأقل تقدماً بالقياس إلى أوربا الرأسمالية والشيوعية وصار على هذا العالم تجاوز تخلفه عبر الخيارات الاقتصادية _ السياسية المختلفة ، وحمل مفهوم دول عدم الانحياز مضمون حركة عالمية مستقلة عن الصنفين ولها مكانتها في العالم كقوة ثالثة .

وفي كل الأحوال لم تكن الأطراف هامشية بالعلاقة مع المراكز ، بل إن نظرية حاولت أن ترصد السبل لهذا العالم التي تقوده إلى التحرر، ولقد انطوت الأطراف بالأصل على مفاهيم الثورة والتحرر والاستقلال والتنمية المستقلة والوطنية والاشتراكية . هذه المفاهيم جاءت نقيضاً لمفاهيم الاستعمار القديم والجديد والإمبريالية والاستغلال ولقد ترافق ذلك كله مع بروز حركات تحرر ورموز ذات بعد عالمي : عبد الناصر ، نهرو سوكارنو ، غيفارا ، تيتو ، المهدي بن بركة ، هوشي منه ، سيكانوري .. إلخ .
ولقد تأسست الدول الوليدة كثمرة ثورات تحررية من الاستعمار التقليدي ، وبدا أن الآمال معقودة على السياسة الثورية لتغيير العالم ، وأحتل هذا العالم الذي سمي بالأطراف عنصراً مهماً في تصور مصير الإمبريالية ذاتها .

لكن التاريخ جرى على غير ما تشتهي السفن انتهت الحرب الباردة بزوال الاتحاد السوفيتي وحلفائه ، وباءت الدول الوليدة التي جاءت ثمرة حركات تحرر بالفشل في إحداث التنمية المستقلة ، والصين شقت طريقها الخاص متخلية عن الطابع الأيديولوجي الذي رسمه ماو ، والمراكز الإمبريالية التقليدية تعيد بناء نفسها من جديد وتبرز أمريكا قطباً واحداً قادراً على التحكم بدفة مسار العالم مستغلة الفراغ العالمي لإنجاز ما يمكن إنجازه قبل أن تتحول المراكز القديمة إلى مراكز جديدة .

لقد ترافق هذا التحول في العالم مع نمط جديد من الرأسمالية أبقى على الطابع الإمبريالي لها ولكنه أضاف عليه ثورة معلوماتية وتقنية عالية المستوى وشركات أكثر عبوراً للقارات تدخل مباشرة في شؤون ما سمي بالعالم الثالث عبر رأسمال لا يجد أي عقبة أمام طريق تناميه .

كل ذلك أصطلح على تسميته بالعولمة والأطراف التي انتصبت آمالها لم تعد ذا شأن في هذا العالم فإذا العالم مراكز بلا أطراف ، لا بمعنى أن الأطراف صارت مراكز بل بمعنى أن الأطراف فقد آية فاعلية في هذا العالم وصارت نهباً للرأسمالية المتعولمة دون أية ممانعة تحاكي الممانعة القديمة ، بكلمة واحدة : إن انقلاباً حصل في العالم هو العولمة حول العالم الثالث القديم إلى جسد تنشب أظفارها فيها دون الشعور بالألم والإحساس بالتمرد ولو دققنا في العولمة من زاوية فلسفة التاريخ لما خالجنا الشك بأن عناصر القوة المحتكرة في المراكز وخاصة في الإمبريالية الأمريكية ستستمر إلى أمد لانستطيع تحديده في مسار التاريخ العالمي.

فالقوة العسكرية والفكرية والاقتصادية والعلمية والتقنية والإعلامية مجتمعة والتي تؤسس لايدولوجيا توسعية ، أو المستندة إلى إيديولوجيا توسعية تعيد إنتاج الظاهرة الاستعمارية هي التي تجعل اليوم مراكز واحداً تقريباً هو المركز العولمي الأمريكي فاعلاً شبه وحيد على مستوى العالم .

أجل كانت المراكز دائماً تحتكر الفاعلية لكنها لم تلغ في يوم من الأيام فاعلية ممانعة للأطراف .
أما الآن ففاعلية الأطراف زالت : بالتجارة العالمية ، بصناعة المعلومات ، بفرض نمط الحياة والتدخل المباشر في تحديد سياسية الأطراف التي فقدت عقلها وإرادتها.

ترى ما الذي جعل أطراف الأمس والتي كان يؤمل أن تسهم في إضعاف الامبريالية جسداً لا دماء فيه ؟

إن الإمبريالية قد سعت دائماً للحيلولة دون أن تحقق الأطراف أي تنمية مستقلة فيما كانت الأطراف تستثمر ثقتها من انشطار العالم إلى قطبين متناقضين ، أما وقد زالت هذه الواقعة زال معها الأمل في التنمية المستقلة ورضخت الأنظمة السياسية في أطراف الأمس _ جلها تقريباً _ لمنطق العولمة في السيطرة على السوق ورأس المال والسلطة وبدا أن الأطراف هوامش تلهث ماوراء نمط الحياة السلعية فتغيرات العلاقة القديمة بين الاستقلال ونزع التبعية إذ صار بمقدور الرأسمالية المتعولمة أن تتحكم بالسلعة كقوة قادرة على تحديد ما يجب أن تكون عليه الدول الهامشية إذ وجدت هذه الدول نفسها في حضن العولمة دون أن تؤسس أي قاعدة لدخولها مشاركة بها.

بل صار بمقدور الرأسمالية المتعولمة أن تحول السلعة نفسها إلى وسيلة عقاب وان لم تنجح فالقوة العسكرية العقاب الأقصى فمن كان يتصور أن تحتل العراق قبل ثلاثين عاماً أو عشرين ؟ أو أفغانستان ، من كان يتصور أن تمسك أمريكا بجميع المشكلات في العالم وحلها على هواها على هداها . لقد دمرت الدولة التي نشأت بعد الاستقلال في الدول الطرفية أقصد الدولة الوطنية بل وتحولت إلى أداة في يد المركز الرأسمالي المتعولم الذي أشاع مفهوم زوال الدولة ومفهوم القرية الكونية .

ففي الوقت الذي ازدادت فيها قوة الدولة في المراكز المتعولمة وجدت الدولة في الأطراف نفسها وقد زالت كالأطراف أمام ظاهرتين إيديولوجيتين متناقضتين في الشكل ومتشابهتين في المضمون إيديولوجيا الدفاع عن العولمة وضرورة الاندراج في القرية الكونية وهي أيديولوجيا السلطة العزلاء إلا من أدوات القمع ، والأيديولوجيا الأصولية المعبرة عن عجز هذه المجمعات العربية أو الإسلامية التي وجدت نفسها فريسة النهب والاستغلال وفقدان السيادة الوطنية .

وإذ أقول أنهما متشابهين في الجوهر: فأقصد أنهما إيديولوجيا وهم مطلق .
فأيديولوجيا الدولة في العالم الهامشي لم تدرك أننا أمام رأسمالية جديدة تزيف سلوكها في الهيمنة عبر وحدة العالم والقرية الكونية ، تزيف سلوكها لإخراج الجزء الأكبر من العالم من هذه القرية الموعودة وإقامة نظام عبودية جديد والايدولوجيا الأصولية : لم تدرك أنها لاتستطيع مواجهة المد العولمي بنكوص إلى تاريخ مضى.

ولما كانت أيديولوجيا التحرر قد وصلت إلى طريق مسدود عبر عشرات السنين من تحطيم المجتمعات والتي حالت السلطة بينها وبين بناء شخصيتها السياسية والمدنية ، عاد الصراع الآن في صيغته الزائفة : بين سلطات هي في طابعها لاعلاقة لها بالعولمة موضوعياً وتشارك في الحملة ضد الأصولية وبين أصولية تواجه واقعاً موضوعياً بفكرة نكوصية .

وهكذا اكتملت دائرة الموت ، موت الأطراف فإذا نحن أمام مراكز بلا أطرف .

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات