البعث بين الأيديولوجيا والتاريخ

Photo

أسس ثلاثة من النخبة السورية المدينية حزب البعث العربي الإشتراكي . استاذ التاريخ الدمشقي ميشيل عفلق ، وأستاذ الفيزياء و الدمشقي أيضاً صلاح الدين البيطار ، وكلاهما تخرجا من السوربون، والمحامي الحموي أكرم الحوراني خريج مكتب عنبر ثم كلية الحقوق في دمشق . كان الثلاثة قوميين عروبيين ولديهم نزعات اشتراكية ، وحرّكتهم نزعة طوباوية جميلة ألا وهي تحقيق الأمة – الدولة ، والعدالة الإجتماعية .

وخلال سنوات لا تتجاوز عقداً من الزمن بعد التأسيس والدمج بين حركة البعث وحركة الإشتراكيين العرب ، انتشر البعث في أوساط عدد ليس بالقليل من المثقفين العرب ، وبخاصة في بلاد الشام والعراق . كانت هذه الأيديولوجيا القومية الساحرة كسحر الأيديولوجيا الشيوعية وسحر الأيديولوجيا الإخوانية الإسلامية ذات إغراء كبير على الفئات الوسطى ، وهذا من شيمة الأيديولوجيات الشمولية الكبرى . إذ وجدت الفئات الوسطى ضالتها في حركات تنطوي على بديل لواقع الحال في مملكة السعادة الموعودة على الأرض . كان هذا اللاهوت الأرضي قوياً إلى الحد الذي حال بين المثقف و بين السؤال عن علاقة الإمكانية بالواقع .

لست في وارد العودة إلى التاريخ ولكن حسبي القول إن توسل البعث القوة العسكرية أداة للوصول إلى السلطة وعبر الإنقلاب العسكري ، وبخاصة بعد انقلاب 8 شباط في العراق و 8 آذار في سوريا قد حطم الإهاب الطوباوي للأيديولوجيا و أغرق البعث في مستنقع السلطة والصراع على السلطة . و بالتالي زالت العصبية الأيديولوجية لقاء نشأة العصبيات المناطقية والطائفية والمصلحية والتي مهدت الطريق عبر دكتاتوريات انتقالية من عام 963 حتى عام 970 تحتفظ بجزء من روح أيديولوجية إلى أسوء أوضاع الدكتاتورية التي عرفها التاريخ المعاصر وأعنفها وأقصد ديكتاتورية صدام حسين وديكتاتورية حافظ الأسد .مع وجود بعض الفروقات الفردية بينهما ، والشروط الموضوعية لكل من سوريا والعراق .

لقد انتقل البعث في هذين النمطين الدكتاتورين من حزب إلى جهاز تنفيذي لسلطة الدكتاتور وسلطة الأمن ، وصار لدى الديكتاتور و عصبيته الأمنية – العسكرية العنفية الضيقة دولة ، فماتت الدولة بالمعنى المعاصر للكلمة . وفي الوقت الذي كان فيه ديكتاتور العراق يطمح إلى تكوين دولة له ذات قوة عسكرية جبارة ، ومتقدمة علمياً وتقنياً وخالية من الفساد المالي ، وذات عصبية عائلية ضيقة مزخرفة بعصبية حزبية ، وجهاز أمن يزرع الخوف في المجتمع ، كان ديكتاتور سوريا يطمح للبقاء في السلطة عن طريق عصبية عائلية وطائفية معاً ، بل وبدون زخرفة بعثية إلا عند الضرورة ، وعبر فسادٍ رهيب وتحطيم بنية المجتمع المعشرية .

و في تحول البعث إلى جهاز وفقدانه صفة الحزب السياسي بالتهام الدكتاتور للسلطة على نحو مطلق ماتت الأيديولوجيا . لم تعد الدكتاتورية دكتاتورية حزب تنطلق من عصبية أيديولوجية ، و ذات صفات مناطقية كما هو الحال منذ 963 وحتى 970 بل دكتاتورية فرد ذرر المجتمع ليسهل السيطرة عليه .

كان مصير المؤسسين فاجعاً : عفلق الذي حكم عليه القاضي البعثي في دمشق بالإعدام آوى إلى دكتاتور العراق يموت في باريس ويدفن في بغداد بعد أن منحوه اسم أحمد ، و تعبث بقبرة جرافة أمريكية أو طائفية لا فرق . وستغتال مخابرات الأسد صلاح البيطار ويدفن في باريس ، ويموت أكرم الحوراني في عمَّان ويدفن فيها . وكان البعث قد دُفن قبل أن يدفنوا . دفن بعد أن دفنت الديمقراطية السورية التي أنتجت البعث .

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات