الذاكرة التاريخية للجماعات

Photo

ما من أمة وما من شعب وجماعة إلا ولها ذاكرة تاريخية حافظة لوقائع الماضي ورموزه، وتشكل عنصراً من عناصر ثقافته الجمعية، وهذا ما دفع بعض المفكرين إلى اعتبار الماضي المشترك أحد مقومات الأمة. والماضي المشترك لا يكون أحد مقومات الأمة إلا إذا كان حاضراً في حقل الذاكرة الجمعية.

عند هذا الحد فإن الأمر يجري المجرى الطبيعي، لكن التأمل في الذاكرة التاريخية للجماعات البشرية سينقلنا من حقلها الطبيعي إلى حقل آخر هو الحقل الأيديولوجي، من حقل خلق الشعور بالانتماء إلى تهديد الانتماء. فإذا أخذنا العرب مثلاً من حيث هم جماعة قومية، فإنها ولا شك تنطوي على ذاكرة جمعية تاريخية غنية جداً، ذاكرة تتنوع من الشعر والأدب والفكر إلى الرموز التاريخية، إلى الوقائع الملحمية، وهي ذاكرة تخلق الوعي المشترك بالانتماء، فلا يزال الخلفاء الراشدون يحتلون في الذاكرة الشعبية مكانة عظيمة..

ولا تزال معارك اليرموك والقادسية تحرك خيال الذاكرة العربية، والذائقة الشعرية العربية تحتفظ بالشعر الجاهلي، ويظل المتنبي مسيطراً على الذاكرة الشعرية، ويظل صلاح الدين الأيوبي يشكل رمزاً للكفاح ضد العدو الخارجي بسبب ارتباطه بتحرير القدس من الصليبيين.

وبعد تكوّن الدول العربية صارت هناك رموز وطنية تحوز مكانة مهمة في الذاكرة الوطنية المحلية، وبعضها تجاوز محليته إلى الساحة العربية. ولكن هناك نمطاً من ذاكرة الجماعات العربية يمكن أن يتحول إلى ذاكرة عدوانية تفسد الشعور المشترك أو الشعور بالهوية المشتركة، وتتحول إلى تبرير لصراعات راهنة وتزييف متعمد لحقيقة التاريخ. دعوني أقول إن هناك نمطين من الذاكرة العدوانية: الأولى الذاكرة التي تحتفظ بموقف راهن من صراع قديم على السلطة، وتحدد هويتها على أساس كهذا.

والثانية هي الذاكرة التي يتوهم أصحابها أنهم قادرون على استعادة مخزونها القديم في الواقع بالقوة. تغدو الذاكرة هنا في هاتين الحالتين مصدراً لسلوك عملي وليس مجرد تذكر أطلال لا مجال لإعادة الحياة لها أو حنين رومانسي فقط. فتتحول، والأمر كذلك إلى عدوان على الحاضر والمستقبل وعلى الناس الذين يمثلون الحياة المتجددة.

لا شك في أن هناك ذاكرة وطنية وشعبية لا تستطيع أن تنسى سلوكاً عدوانياً من قبل طرف ما، كذاكرة أهل الجزائر في ما يتعلق بسلوك الاستعمار الفرنسي وعنفه الذي أودى بمليون شهيد، ولهذا فإن الجزائر تطلب دائماً اعتذار الحكومة الفرنسية، كي تخفف من الأثر السلبي لهذه الذاكرة، لكن الذاكرة الجزائرية هذه لم تتحول إلى ذاكرة عنفية عدوانية انتقامية.

المشكلة تكمن في الذاكرة العدوانية داخل جماعات واحدة تنتمي إلى شعب واحد ووطن واحد، كما يحصل اليوم في بعض البلدان العربية، وكما نجد الآن من خطاب داعشي يجعل من الذاكرة أيديولوجيا أصولية نكوصية، تسعى لتحقيقها عبر نفي المجتمع والسيرورة التاريخية وتغير الأحوال.

وبالتالي، تحرير الذاكرة أولاً من مخزونها العدواني مسألة في غاية الأهمية، والنظر إلى الحياة في تجددها يوفر علينا صراعات زائفة ومضرة بالنسيج الوطني الاجتماعي، واستحضار الجميل والمبدع من التاريخ، والذي يوحد الوعي الجماعي هو الآخر، مهمة من يحول الذاكرة من عدوانية إلى دافع للعيش السلمي المشترك.

فاستحضار الرموز الأدبية ذاكرة تاريخية والفكرية العبقرية كشعر المعري والمتنبي وفكر ابن رشد وابن خلدون، واستحضار تاريخ المدن العظيمة ودورها في بناء الحضارة الإنسانية هو الذي يجعل من الماضي مقوّماً من مقومات الوحدة الثقافية الوطنية والقومية. وهذا ما يحتاج إلى سياسة ثقافية تقوم على رأسها النخب الفكرية المتحررة من أوهام الذاكرة العدوانية.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات