القطيعة الثقافية

Photo

قدّ الفيلسوف الفرنسي باشلار مصطلح القطيعة المعرفية / الإبستيمولوجية لفهم تطور العلم. والمثال المشهور على هذه القطيعة هو الانتقال من المصباح الذي يعمل بالزيت واحتراق الفتيل إلى النور الكهربائي. والحق أن العلم يتجاوز ذاته باستمرار. والانتقال من نيوتن إلى إينشتاين شاهد على ذلك.

والسؤال هل هناك قطيعة ثقافية شبيهة بالقطيعة الإبستيمولوجية؟

أعتقد بأن الجواب -بناء على التجربة التاريخية للتغير الثقافي- هو بنعم. أتحدث هنا عن الثقافة بما هي وعي بالعالم والمعتقدات والعادات والقيم. فتحرر المرأة المعاصرة ودخولها الحياة العملية لهما قطيعة ثقافية مع ثقافة المجتمع ومكانة المرأة فيه.

ولكن إذا كانت القطائع العلمية تتم بسلام ويجري الإعتراف بها عادة دون عناء، أو بعد حوار مثمر بين العلماء، فإن القطائع الثقافية دونها حبل الوريد. وذلك لعدة أسباب أهمها الآتي:

الثقافة بالمعنى العام نمط حياة وأسلوب عيش وهذا أمر من قبيل الظواهر المُعاندة التي لا تتغير بسهولة. فضلاً عن ذلك فإن المعتقدات التي تتوارثها الأجيال والتي تحدد السلوك تتجذر في الوجدان الجمعي وتتحول إلى سلطة قوية هيهات لها أن تتزحزح. وإذا أضفنا إلى ما سبق الفئات الاجتماعية ذات السلطة المتعددة الأشكال وذات المصلحة ببقاء القديم أدركنا حجم الكابح للتغير الثقافي الذي ينطوي على القطيعة.

وتجب الإشارة إلى أن القطيعة الثقافية التي أنجزها الغرب بعد عصر الحداثة وما زال ينجزها إنما تُرد إلى عاملين: قوة الطبقة البرجوازية الصاعدة وبخاصة في القرن الثامن عشر وما بعده، وفكرة الحرية التي تحولت هي أيضا إلى نمط حياة معاند لأي سلطة.

وإذا كان التغير الثقافي راح يحدث في عالم العرب منذ عصر النهضة في منتصف القرن التاسع عشر يمشي مشي السلحفاة وما زال فإن ذلك يعني أن ليس هناك قوى صاعدة كانت قادرة على إنجاز القطيعة الثقافية وما زالت فكرة الحرية تنوس بين اليقظة والنوم. بل إن النكوص الحاصل اليوم عند بعض الجماعات الأصولية ليكشف عن هشاشة الحال الثقافية التي نحن عليها.

والحق أن النخبة أو بعض النخب تستطيع أن تنجز قطائع ثقافية لذاتها وقد فعلت ذلك ولكنها غير قادرة على جعل هذه القطائع نمط حياة للمجتمع.

هذا لا يعني أن ليس هناك تغير في عالم القيم الراهن لكنه تغير أبطأ مما يمكن للخيال أن يتصوره رغم التقدم الهائل في وسائل الاتصال واتساع العلاقات بين شعوب الأرض، حسبنا أن ننظر إلى بغداد القرن الماضي وبغداد القرن الراهن أو إلى القاهرة ذاك الزمان وإلى القاهرة هذا الزمان لندرك حجم النكوص الثقافي.

وأنا هنا لا أتحدث عن النكوص الأيديولوجي فقط بل عن النكوص في نمط الحياة ذاته.

وعندي أن ليس هناك انفصال بين الثقافة والسياسة، بين الثقافة والسلطة، بين الثقافة والأيديولوجيا. ويكفي أن ننظر في الوقائع التي خلفتها القوى الناكصة لأحزاب الله وداعش وما شابههما من الوسخ الثقافي-السياسي لندرك حجم الكارثة الوجودية التي تشهدها المنطقة العربية.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات