ما الوعي؟

Photo

ليس سؤالنا: ما الوعي بسؤال جديد، إنه سؤال مشكلة لأن الإجابات عنه متنوعة ومختلفة وبخاصة حين يتفتق سؤال ما الوعي عن أسئلة أخرى من قبيل، ما أصل الوعي ما دوره في الحياة؟ ما الشروط التي تقف وراء تغيره؟ ما أشكاله؟ كيف نفهم التمايزات في الوعي؟

سأخلع عني طريقة حشد القيل المتنوع حول الوعي فما قيل قد قيل وموجود في ثنايا الكتب.. أنطلق مباشرة من فهمي للوعي والذي قد أشارك فيه البعض أو أختلف وربما سبقني إليه البعض وربما لا، وفي كل الأحوال فإني أقدم وعيّ للوعي.

أقصد بالوعي جملة من التصورات والمعتقدات والرؤى التي تعين موقف الإنسان من الحياة وتحدد سلوكه.

ومفهوم الحياة الذي استخدم يشير إلى الجوانب المتعددة لوجود الإنسان. حياته الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والجمالية والماورائية، الحياة بوصفها ظهور فاعلية البشر وسلوكهم هذه التصورات والمعتقدات والرؤى والتي تكون الوعي الإنساني أهم ما فيها أنها تظهر في الممارسة في ممارسة الحياة، في الحياة اليومية للبشر، في مواقف البشر من عالمهم المعيش.

الوعي بهذا المعنى فاعل حقيقي ومتحد بالوجود الاجتماعي والسؤال التقليدي عن نشأة الوعي لا يلغي هذه الحقيقة أن الوعي أصيل في السلوك الإنساني.

إن وضع المسألة في صورة سؤال أيهما أولى الوجود الاجتماعي أم الوعي هو عودة إلى الميتافزيقا.
أطروحتنا تقول: لا وجود للوجود الاجتماعي دون الوعي، ولا وجود للوعي دون الوجود الاجتماعي.
وطرح السؤال أيهما أولى من قبيل التقسيم التعسفي للوجود الاجتماعي ككلية.
وإن قلنا وجود اجتماعي فإنه يعني بالضرورة الوجود الكلي أي وجود الوعي وإن قلنا الوعي فإننا بالضرورة نتحدث عن وجود اجتماعي.

والبحث عن الأصل عودة لفكرة البداية التي لا تعني شيئاً ولا تمدنا بأي معرفة بالواقع ككلية.. فالإنسان موجود بوصفة كائناً واعياً، ولا شك أن وعيه سيرورة تاريخية، يتغير ويتطور في علاقة متبادلة بينه وبين تعين وجوده التاريخي الذي هو وحدة لا تنفصم بين الوعي والوجود، بل إن الوجود التاريخي كوجود كلي لا يسمح لنا بعملية عزل مصطنعة بين الوعي والوجود.

فالوعي تعين للوجود الإنساني التاريخي والوجود الإنساني التاريخي بدوره تعين للوعي.

فالإنسان إذاً ليس مشطوراً بين وجود ووعي، إنه موجود واعٍ. لنأخذ مثالاً على ذلك وجود الفلاح، سيقال إن للفلاح وعياً فلاحياً، إنه ليس فلاحاً أولاً ثم صار لديه وعي فلاحي، إنه وجود كلي. عندما نقول: فلاح فإننا نتحدث عن كائن بشري متعين تاريخياً بعلاقته بالأرض عملاً وعقلاً. لكن الفلاح نفسه مفهوم يتعين تاريخياً فلاح عند إقطاعي فلاح رأسمالي، الفلاح وحدة كلية والفلاح الإقطاعي وحدة كلية والفلاح الرأسمالي وحدة كلية أي أن وجوده التاريخي هو وحدة عمله وعيه معاً.

إن الأولوية المنطقية للوجود دفعت البعض للحديث عن أولوية زمانية للوجود على الوعي مع أن الوجود هو دائماً وجود واعٍ. والوجود الإنساني الاجتماعي يتكون تاريخياً وبالتالي فالوعي هو الآخر يتكون تاريخياً.

فمجرد أن نقول الوعي يعني أننا فصلنا الوعي وجعلناه عالماً خاصاً، تماماً كما نعزل جزءاً من الجسد لمعرفته ومعرفة وظيفته، ولكنه يظل متحداً بالجسد ومرتبطاً بأجزائه الأخرى، إن العين التي لا ترى جيداً نحاول أن نساعدها على الرؤية عبر العلاج عبر العدسات إلخ.

الوعي هو عين الوجود الإنساني، الإنسان يرى العالم عبر وعيه الذي يتشكل في العالم نفسه إنه تعين السلوك الإنساني، موقف الإنسان من حياته بكل أبعادها.

هب أننا نتحدث عن وعي بدائي بالعالم إننا هنا نتحدث عن إنسان بدائي، بدائي في علاقته بالطبيعة بتفسير حوادثها، عن علاقات اجتماعية محددة، عن ممارسته للجنس، للفن، لحماية نفسه، عن بيئته، وهيئته، عن أدوات حربه وإنتاجه….. عن علاقته بالحيوانات، عن أوهامه. ……. إلخ.

قيل مثلاً إن الإنسان الأول ما كان يعرف أن الأولاد هم ثمرة العلاقة الجنسية، فالجنس بالنسبة له ممارسة للذة فقط وأن الأولاد هم ثمرة روح خفية تدخل إلى المرأة فتنجب، وبالتالي ليس هناك مفهوم للأب والسلالة.

ولقد مضى وقت طويل حتى انتقل من وعيه البدائي هذا إلى وعي آخر عبر الممارسة والمعرفة والتجربة اليومية.

وإذ نقول: إنسان بدائي فإنما نتحدث عن إنسان يعيش حياة بدائية ووعيه جزء لا يتجزأ من وجوده البدائي. إذاً لا ينفصل الوعي عن التجربة الإنسانية، بل قل إن الوعي حال من حالات تجربته.
وما تطور الوعي إلا تطور التجربة الكلية للإنسان. إن قولنا هذا لا يستفيد حل المشكلة علاقة بالوعي والواقع. فالقول بالترابط والتجربة الكلية لا ينفي أن الإنسان مذ راح يفكر أقام مسافة بينه وبين العالم المعيش.

هنا حاز الفكر على استقلاله النسبي فصار لدينا ذات وموضوع ذات تفكر بموضوع.
وراح الفكر ينشأ تصورات حول الموضوع وأصبح الفكر قادراً على إنتاج منظومات فكرية متجاوزة العلاقة المباشرة بالموضوع.

عبر الفكر صار للوعي استقلاله النسبي وصار فاعلاً في إعادة امتلاك الموضوع ومن هنا صارت اللغة عالماً مستقلاً بعد نشأتها، عبر اللغة صرنا نفكر داخل اللغة وبمعزل عن وجود الموضوع ذاته وأصبحت اللغة هي الوعي بالعالم دون العودة للعالم.

نشأت التصورات المتعددة حول العالم.

فالانتقال من الشر الواقعي إلى الشر كتصور هو انتقال من العلاقات السببية الواقعية - اليومية إلى العلاقات السببية كمبدأ مفسر.

الشر هو وعي كلي للشر الواقعي وإنه المفسر لوجود الشر الواقعي. تماماً الموت الذي يفسر للإنسان القديم وجود الموت.

إن وعي الشر ووعي الموت هو وعي لواقع الشر واقع الموت، ومتجاوز لواقع الشر والموت كتجربة واقعية.

هذا التجاوز ما كان ليكون لولا الفاعلية المستقلة للتفكير الذي بدوره أشاد أشكال الوعي المختلفة بالعالم.
وهكذا حاز الوعي بدورة على استقلاله وأصبح عالماً شبه معند لا يتغير ميكانيكياً بتغير الواقع الموضوعي.

من هنا نفهم حضور تنوع أشكال الوعي لدى الناس الذين يعيشون معاً في واقع محدد تاريخياً.
فمن البشر الذين يعيشون عصر المركبات الفضائية يعتقد بالأرواح الخفية والسحر والأبراج ومنهم من حسم أمره وتجاور هذا الاعتقاد وبنظره طبيعية - علمية.

كيف نفسر حضور الوعي العلمي والوعي ما قبل العلمي لدى سكان بناية في مدينة نيويورك أم دمشق؟
كيف نفسر الواقعية التالية: أب يأخذ أبنه المريض نفسياً إلى المشعوذ ليخرج الجن الساكنة فيه وأخر يأخذه إلى الطبيب، وهما يعيشان في عصر واحد وبحي واحدة.

إنها التجربة الكلية للإنسان والتي أفضت إلى استقلال الوعي عن الموضوع المفكر فيه.

مرة أخرى نتحدث عن التجربة كتجربة كلية الوعي أحد عناصرها، فالإنسان يعيش في العالم كتجربة والوعي هو تجربة أصلاً.

إنه وحدة العناصر البيولوجية والنفسية والعقلية والمعاشية والأخلاقية إلخ.
إن الوعي وقد صار تصورات ورؤى ونظريات وأيديولوجيات أخذ صيغة العالم الموضوعي بالعلاقة مع الإنسان وصار هذا العالم بدوره موضوعاً للتفكير، موضوعاً للتقويم، بل وانتج صراعات الوعي وتناقضاته.

صار فاعلاً أساسياً في الحياة الكلية، صار الوعي مُفَسراً ومفَسراً بآن معاً.

خذ ظاهرة الاستشهادي وحللها.

الاستشهاد شكل من وعي العالم، الاستشهاد ظاهرة واقعية: يقوم الإنسان بالتضحية بذاته لتحقيق هدف يحوز قيمة أكبر من ذاته.

السبب الواقعي للاستشهاد: الوطن محتل معتدى عليه ولا كرامة للإنسان في وطن ليس حراً من الاغتصاب.

أو أن هناك فكرة لن تتحقق إلا بالتضحية من أجلها.

لكن هذا السبب الواقعي المفسر للاستشهاد ولا قيمة له دون الوعي الذي تكون لدى الاستشهادي، فلو أن هذا السبب الواقعي يفسر الاستشهاد لصار كل الناس في الوطن استشهاديين، وهذا غير حاصل، فوعي الاستشهادي شرط ضروري لواقعة الاستشهاد، إيمانه بالجهاد، أيمانه بالجنة، إيمانه بأن استشهاده أمر إلهي حاضر حضوراً عميقاً في وجدانه، وعيه يدفعه إلى الاستشهاد لكن الاستشهاد ما كان ليتحقق واقعياً دون شروط واقعية حولت وعيه إلى ممارسته. بهذا المعنى نفهم وحدة الوعي وشروطه تعينه، فالإنسان فاعلاً هو الإنسان الذي حوّل وعيه بالعالم إلى فاعلية.

لو قلنا إن الواقع هو الذي يخلق الوعي بمعنى أن الوعي هو انعكاس للواقع لما فهمنا إطلاقاً بنية الوعي، الواقع في علاقة متبادلة مع الوعي، الوعي هو وعي واقع، إذاً هو نشاط توجه إلى الواقع كذات فاعلة، وحين يصبح الوعي بنية ما فإن الواقع نفسه يصب في هذه البنية، إذ ذاك يصبح الواقع في الوعي من صناعة الوعي أي أن الواقع الموجود في الوعي ليس هو الواقع الموجود وجوداً موضوعياً، فلو كان الوجود - الواقع الموضوعي هو ذاته الموجود في الوعي لما كان هناك اختلاف في وعي البشر للواقع، ولأن وعينا الواقع هو ثمرة واقع محدد تاريخياً ووعي مسبق ووعي فاعل نعيش حالات تنوع الوعي.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات