ثقافة الموت !

Photo

لقد قدّ البشر الذين عاشوا في تجمعات مشتركة ، عبر التاريخ ، ثقافة تحافظ على حياتهم وتحميهم في الغالب من تغول بعضهم على بعض، ثم ظهر المبدعون الذين صاغوا القيم الجمالية والأخلاقية والإنسانية في نصوص لغوية ولونية وحجرية..

فالثقافة الإبداعية ليست تعبيرا عن انعكاس ميكانيكي للطبيعة والمجتمع، إنها شكل من أشكال حب الحياة، وصناعتها، بل والمساهم الأبرز في تكوين النفوس. فالرقص كإبداع شعبي هو في الأساس احتفال بالحياة، وانتقاله إلى حالة إبداعية هو الذي ولد اللوحات الجمالية الراقصة، وقس على ذلك دور الفنون والآداب والأفكار.

ولعمري إن تاريخ مجتمع من المجتمعات، أو تاريخ أمة من الأمم ليس مجرد تلك الأحداث السياسية والسلطوية والعسكرية فحسب، بل هو تاريخ تشكل عقلها في كل أشكاله الجمالية والفكرية والفنية والأخلاقية. وتشكل عقلها العملي المتعين في السلوك وعقلها النظري الفني المتعين بالمكتوب والمرسوم.

تبرز المسألة خطيرة جدا في العلاقة التي تقوم بين التاريخ السياسي العسكري السلطوي والتاريخ العقلي-الروحي.

فحين تدمر السلطة الحاكمة الحياة الروحية ، خوفا من العقل وأشكال ظهوره كالفن والأدب والفكر والقيم، فإنها تدمر تاريخ المجتمع الروحي وتحرمه من الارتقاء الأخلاقي والإحساس القوي بالحياة، وتقوم بهذا الفعل الإجرامي بتعبيد الطريق نحو أخلاق العنف وأيديولوجيا الموت والقتل.

والأخطر من ذلك حين تقوم الجماعة الحاكمة قسرا بإيقاف التحول الطبيعي وشبه القانوني للمجتمع سياسيا واقتصاديا وثقافيا، فإنها تخلق شروط تشويه المجتمع والإنسان، وتنتج كل أشكال الثآليل المرضية في وجه الأوطان. فإذا جرى تحطيم الذائقة الجمالية، والذهنية الأخلاقية، والعقلية العلمية، والهوية المنفتحة، والأحلام الرومانسية، والأجنحة القوية والنفس الأبية والفرح بالحرية فما الذي يتبقى من الحياة!

لا يتبقى من الحياة إلا الظلام، لأن الحرية التي تزود العقل بالنور تكون قد اغتيلت، والحي الذي ولد وتكون داخل هذا الظلام الذي عممته السلطة المعادية للحياة، يتحول شيئا فشيئا إلى فاقد لمعنى الحياة ومبرر البقاء فيها. فيبحث عن معناه في العدم.

ودون أن نفهم التاريخ الراهن للدكتاتوريات العربية على هذ النحو، بوصفه تاريخ هزيمة الثقافة الروحية والعقلية لا نستطيع أن نفهم هذا الانفجار الكبير الذي هو دفاع عن الحياة المأمولة عند التائقين إلى الحرية من جهة وقتل للحياة عند ظلاميي الموت من كل الأنواع من جهة أخرى.

من هنا نفهم لماذا ترافق الانفجار الثوري مع الانفجار الأبداعي، ولماذا تكون هزيمة التاريخ القمعي هزيمة لتاريخ الانحطاط العقلي والروحي.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات