جمالية الثورات العربية

Photo

مع أول حنجرة صرخت للحرية في وجه الطغاة راح الثائرون يمارسون إبداعهم الفني في لوحات متعددة الأشكال والمضامين والألوان. راح الثائرون يكتبون سفر علم جمالهم العصي على الأمّي ـ الجاهل. في علم جمال الثورة تقع العيون - لأول مرة - على مشهد واقعي للصراع بين القبح والجمال، لأول مرة تشترك الحواس جميعها في التقاط مشهد يتم على الأرض دون تمثيل أو محاكاة.

حركة الشعب انسيابية، عفوية، تشكيل لم يقرره أحد، الأجساد الكثيرة تكون جسداً واحداً، الكثير يصبح واحداً، تمتزج الأكف فتعزف موسيقى الرفض والتمرد والقوة والحب، تتحد الحناجر فتشكل صوتاً واحداً منسجماً مع صوت الأكف التي تصفق.

لأول مرة بحرية للحرية، الجميل هنا يتعين بأبهى صوره الواقعية، يخرج الجميل من حقل النسبية ليصير اتحاداً بين الذاتي والموضوعي. الذات صارت جميلة موضوعياً في مواجهة هذه الحركة الانسيابية العفوية، هذا الجسد المتكون من أجساد الأكف المتحدة بالأصوات، يطل جسد يتسلل خفية، يتوارى خلف حائط أو حاوية زبالة، يحمل بيده بندقية، يأخذ وضع القناص، تفوح رائحة الموت الكريهة من عينيه، صامت، إنه القبح المطلق الذي جاء لاغتيال الجمال.

الجميل المتعين بكل الأعمار، المتعين بالنساء والرجال معاً، الأطفال والشيوخ والشباب، الجميل الذي يرسم على الساحات والشوارع - بكل الألوان - صورة الأجساد المتراصة، سرعان ما يواجه القبيح من لون واحد، أنه يلبس لون الصحراء، قبيح من عمر واحد. انهم ذكور ذوو أعمار متقاربة.
الجموع التي تضج بالحياة وتصدح بالنشيد سرعان ما يهجم عليها القبح بالرصاص والدخان.
في التظاهرة: تتحرر المرأة من اغترابها، لا تعود عورة ولا فتنة، بل كائناً بشرياً يصدح بصوته الأنثوي ويمتزج بالصوت الذكوري فيكوّن صوت الحياة الجديدة.

يزين المتظاهرون وجوههم بعلم بلادهم ويجعلون من ألوانه عمامة على رؤوسهم، الأحمر والأبيض والأخضر والأسود ملبوس ومرفوع، المبرقع والكاكي يفسدان جمال الألوان.

جمال الألوان التي ترفرف في السماء أو المرسومة على وجوه الأطفال والنساء، الألوان المرتبة ترتيباً يحافظ على رمزية العالم، جمال الألوان هذا يتعرض لهجوم اللون الكاكي والمبرقع المسلح بأداة قتل.

في المعركة التي يخوضها الجمال مع القبح، في المعركة التي يخوضها اللون الأحمر والأبيض والأخضر مع اللون الكاكي والمبرقع، تنتهي باللون الأحمر، سائلاً على الجسد وعلى الأرض.

الدم - اللون الأحمر هذه المرة ليس مرفوعاً باليد وليس مرسوماً بآلة خارجية على الوجه لتشكيل الجميل، بل إنه الجسد ذاته الذي فاض عن لون الحب، الحب للوطن وللحرية. يحطم المتظاهرون الذين يرفعون جثمان الشهيد مفهوم التراجيديا اليوناني القديم.

يؤلفون تراجيديا جديدة، كل الجدة، هنا لا تنتهي التراجيديا بموت البطل لا تنتهي بالحزن على موت نهائي، بل يولد الحزن دافعاً أقوى نحو الموت من أجل الحياة.

تراجيديا التظاهرة ـ الثورة، ليس فيها بطل وحيد أو مخلص، كل شخص فيها بطل آلاف الأبطال، وحين يسقط بطل من الأبطال تفقد التظاهرة بطلاً واحداً يشيعه الأبطال بالنشيد.

نهاية التراجيديا الشعبية فرح بالنصر، وليس نهاية مأساوية تبعث على الغم. البطل الشهيد ـ أبطال شهداء، انهم كثيرون، متساوون بالقيمة والمكانة. الأبطال هم اللاعبون بكل جد على مسرح الحياة، انهم اللاعبون الحقيقيون وكل العالم مسرح لحركاتهم، وحين تنسدل الستارة تكون رايات النصر قد رفرفت فوق البيوت وشارات النصر عمت المشهد كله، فيرتاح الجمال على كل الأمكنة ويتوارى القبح هارباً من اللون الأحمر.

في عِلم جمال الثورات تتحد القيم الجمالية مع القيم الأخلاقية، يتحد نشيد الحنجرة الموسيقي مع الكبرياء وعندها تتحقق قيمة الروعة. يلبس الكبرياء رداء الروعة والروعة تظهر في الكبرياء، يولد هذا الاتحاد إحساساً جديداً في النفس انه إحساس السمو الجمالي، والسمو الأخلاقي متحدين.

أنا الثائر تعبر عن حقيقتها، فليس هناك من حقيقة أسطع من حقيقة ذات تعلن مواجهتها مع الموت.

فتتحد الحقيقة مع جمال ظهورها، لا تظهر الحقيقة هنا في حكمة شيخ وقور، ولا في نصيحة يسديها عليم، ولا في كتاب مسطور. الحقيقة في الثورة متحدة مع الجسد، الجسد المنتفض بكل حركاته العفوية، الجسد بآلامه، بفرحه، بسعادته، بشجاعته. الحقيقة جميلة لأنها تظهر بلا أدنى خوف، ولا تخفي شيئاً من ملامحها الجميلة، لم تعد الحقيقة التي تنبعث من الثائر مرة، بل تكتسب أعلى درجات الحلاوة. الحلاوة هنا هذا الشعاع المعنوي الذي يصدر عن لهيب الثائر الذي يرمي الحكمة الزائفة «الحقيقة مرة» في سلة نفايات الرعاديد.

في الثورة تمشي الهيبة مع آلاف الأقدام، الأقدام التي تمشي بدورها على هامات أصحاب الجلالة والسيادة والفخامة والسمو والمعالي الذين خلعت عليهم هذه الألقاب، دون وجه حق، ونالت من هذه المفاهيم ذات الدلالات المتعددة، فتظهر الجلالة والفخامة والسمو والسيادة والمعالي في بحة الحنجرة، وعرق الجسد، ودم الأوردة المراق. يبدع الشعب الثائر أغانيه التي يموسقها هو بذاته، ويؤلفها هو بذاته وينشدها هو بذاته ويسميها هو بذاته، وينشد الصوت الجميل أمام الآلاف دون أن يكلفه أحد بذلك، ودون أن ينال علامة من لجنة لفحص الأصوات. فنانو الثورة الطالعون من فوهة بركان الرفض والتمرد يرسمون على الجدران وجودهم، أملهم، سخريتهم، وضحكهم الجميل ودموعهم الحرى.

مع الثورة العربية لم يعد الجمال جانباً من جوانب الوجود الإنساني، بل صار الوجود الإنساني جميلاً، لم يعد هنا واحد، اسمه بروميثيوس حامل النار إلى البشر، بل التظاهرة نفسها هي بروميثيوس حاملة النار المقدسة تضيء الحياة من جهة وتحرق الميت من الحياة."

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات