التبرير الأيديولوجي للسقوط الأخلاقي

Photo

ينتظر الإنسان العادي، في اللحظات المفصلية في السيرورة التاريخية، قول النخبة الثقافية فيما يجري، وموقفها مما يصير، اعتقاداً بأنّ هذه النخبة، بما تنطوي عليه من معرفة، هي الأقدر على رؤية ماهية الأمر، وظناً منه، أيضاً، بأنّ المثقف يستند إلى معرفة موضوعية تسمح له بقول الحقيقة.

هذه الثقة بالمثقف الكاتب هي الثمرة الطبيعية لسلطة خطاب العارف. غير أنّ هذا الإنسان الواثق من قول المثقف/ الكاتب لا يُدخل في حسبانه الشروط الكثيرة التي تكوّن قول المثقف، أو تحدّد منظور رؤيته للواقع. لا يدخل في حسبانه المصلحة والانتماء والأيديولوجيا والذهنية وحدود المعرفة التي تكوّن أسس الخطاب الصادر عن مثقف؛ الأسس التي يخفيها الكاتب من جهة، ويجهلها المتلقي من جهة أخرى.

ليس في نيتي أن أدخل في نقاش مع هذا أو ذاك، ممن أختلف معهم في الموقف من الربيع العربي، ولا الذهاب إلى قول معبّرٍ عن خيبة الأمل ببعض المشتغلين بالفلسفة، الفلسفة التي كنتُ أظنها قادرة على منع صاحبها من التفكير المستنقعي، فضلاً عن ترفع مني أن أمنح الأسماء التي خيّبت أملي قيمة إذا ما ذكرتها.

حين بحثت عن خطابات بعض الزملاء الذين جمعتني معهم المؤتمرات الفكرية والفلسفية على امتداد عقود من الزمن، والذين أعلنوا يوماً وقوفهم ضد الاستبداد، ودفاعهم عن الحرية والديمقراطية والعقلانية والتنوير قبل الربيع العربي، وجدتها خطابات لا تختلف عن خطابات أجهزة الإعلام المدافعة عن الطاغية، وباللغة الفقيرة نفسها.

كيف تأتّى أنّ من كانوا يفكرون بالمستقبل المتجاوز للحاضر على نحو أرقى أن ينبروا للدفاع عن الواقع الآسن الذي خرج البشر بكل ما يملكون من شعور بالحرية والتحرر لتغييره؟!

وقف ضد إهدار قوات الردع العسكرية للكرامة اللبنانية، وشارك في المظاهرات الشعبية الكبيرة للمطالبة بخروجها بعد اغتيال الحريري. وها هو اليوم يكتب عن(المؤامرة، وعما يسمى بالربيع العربي)، دون أن يعلن، ولو قليلاً، عن موقف مناهض للقتل الذي تمارسه السلطة بحق المعتقلين.

لبس ثوب الوقار القومي العربي، وطالب بالعلمانية والديمقراطية، وبعد أن انفجر التاريخ ليحقق ما طالب به، يكتب عن المؤامرة الأمريكية الإسرائيلية الخليجية على الدول التي شهدت (ما يسمى بالربيع العربي)كما يقول.

هاجر من عنف الدكتاتور في العراق، واكتسب الجنسية من إحدى الدول الأوروبية، وإذا به يصطف إلى جانب دكتاتور آخر، وقس على ذلك.

مشتغلون بالفلسفة ولم تحملهم الفلسفة على أن يسلكوا فلسفياً في النظر إلى الواقع والمستقبل، بل آووا إلى ذهنياتهم العامية، ومصالحهم الزائلة وانتماءاتهم الأيديولوجية وانتساباتهم الطائفية.

فليس هناك مفهوم أكثر أصالة من مفهوم الحرية في الفلسفة، فإذا الدكاترة من مدرّسي الحرية قطيع دكاترة وراء الكبش القاتل.

ليس هناك مسألة فلسفية أكثر أهمية من المسألة الأخلاقية والتي حدت بكانط أن يقول: لو كانت سعادة البشرية كلها وقفاً على قتل طفلٍ واحد لكان هذا الفعل غير أخلاقي. وها هم يَرَوْن عشرات الآلاف من الأطفال يقضون قتلاً بقذائف الطيران ويصفقون للقاتل الممانع.

ما هي دعواهم في ذلك؟ وقوفهم ضد الأصولية. وهم يعلمون علم اليقين أنّ لا علاقة للربيع العربي في أصله وفصله بالأصولية الإسلاموية العنفية وغير العنفية. فهو تعبير سلمي عن حركة شعبية ديمقراطية ما عادت تطيق حكم الدكتاتوريات السائدة والفاسدة.

نشوء الحركات الأصولية هو ثمرة من ثمرات انهيار السلطة وفقدانها لاحتكار القوة.

والمثقف/ الكاتب/ الدكتور/ الأستاذ الجامعي، الذي يساوي بين الربيع العربي والحركة الأصولية العنفية لتبرير تأييده للدكتاتوريات، يخفي سقوطه الأخلاقي ليس إلا.

فالموقف الفلسفي -الأخلاقي يقول لا للدكتاتورية سواء لبست ثوب العلمانية الزائفة أو ارتدت العمامة الأصولية القاتلة البيضاء أو السوداء.

إنّ هؤلاء الذين يغتالون الفلسفة، في وضح النهار، محافظين على وقارهم الكاذب، مرتفعين عن التعبير عن سعادة البشر المأمولة بحجة الدفاع عن الدولة التي لا سمة واحدة فيها من سمات الدولة المعاصرة، هؤلاء مثل الذين قال عنهم نابليون مرة: إنهم أكياس من الحرير معبأة بالأوساخ.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات