مطلعَ التّسعينات لم أكن أعرف هولندا تقريبا إلّا من خلال كرة القدم. كانت "أجاكس أمستردام" في أوْجها، وكان حاتم الطّرابلسي أحد أكبر نجومها، وكانت الكرة ما تزال تشدّني إليها بكلّ غِوايتها وغنَجها ودلالها.
ممزّقًا بين عشقي الشّديد للكرة وللغزال الأسمر التّونسيّ وبين ما تثيره فيّ من حقد واستفزاز عالييْن أعلامُ الكيان الصّهيونيّ اللّقيط التي تكاد تملأ المدرّجات يرفعها أحبّاء النّادي المذكور، كنت أعيش وقت المباريات مشاهدا ولهانًا…
دارت الأيّام دورتها وجاء طوفان الأقصى المبارك المبدِع فصرتُ أرى شوارع هذا البلد وقد رُفعت الغشاوة عن أهله كما عن كثير من شعوب العالم وحكوماته بعد عمًى تفيض بالمتظاهرين تأييدا لغزّة وشعبها رفضا لما يُرى من وحشيّة الصّهاينة وحيوانيّتهم يمارسونهما بالأسلحة المحرّمة القادمة من وراء البحر حيث "حضارةٌ" كثيرا ما حسدْنا عليها أصحابها في غفلة من عقولنا ومشاعرنا وضربْنا بها الأمثال في الأناقة والإنسانيّة واللّين والرّقّة والنّعومة…
100 ألف هولنديّ ارتدوا "تي شيرت" أحمرَ موحَّدًا وعبروا إلى لاهاي وامستردام من جميع المدن الهولندية دعما لفلسطين ورفضا لتتار العصر وسلوكاتهم المخجلة المخزية. 100 ألف يفضحون خزيَنا وعارَنا وخذلانَنا معشرَ العرب شعوبا وحكّاما ونُخبًا مخادِعةً تحترف الكلام متى ارتخت قبضةُ حكّامها والصّمتَ المطبَق متى اشتدّت هذه القبضة، نخبًا نخرتْها سوسة الأيديولوجيا وأغراها مذاقُ الشّراب الرّخيص المتاح مجّانا لمن يُحسن البيع أكثر.
ها أنا، بهذا النّصّ، أهرب من واقعي المخزي لأحتفل بتضامن الهولنديّين مع غزّة. أنا الذي خذَل فلسطين حتّى بأضعف الإيمان.
دماءُ شعب غزّة ومقاومتها تفتّحت زنابقَ هولنديّة جميلة منعشة !
ما بعد الطّوفان، رغم أنف العدوّ وأذنابه، ليس كذي قبله. إنّها القناعة الرّاسخة التي بها أخفّف من آلامي مواطنا عربيّا ضعُف فيه هوَس الكرة وما تزال قضيّة إخوته المرابطين على شرف أمّة بأكملها متوقّدة حيّة نابضة لا تخبو.