إسرائيل ومبررات العدوان: تراث من الأكاذيب

هل تتحمل حماس مسؤولية الدمار الحاصل اليوم في غزة جراء هجوم السابع من أكتوبر؟ عبر هذا السؤال، ينقسم الناس إلى فريقين. الفريق الذي يعرف أصل القضية وتاريخ الكيان الصهيوني يعلم جيدا، وبالأدلة التي لا يكذبها شيء، أن الأمر لا يرقى حتى للذريعة في يد إسرائيل، لكن للمثبطين رأي آخر، كما كان عليه الأمر دائما.

إن إسرائيل لا تحتاج التبريرات سوى لهدفين: تعبئة الرأي العام الإسرائيلي الداخلي، وإزالة الحرج عن الأصدقاء. بالنسبة للرأي العام الداخلي، فإن إظهار كل الاعتداءات والجرائم كرد مشروع على خطر يهدد بزوال إسرائيل، يعني بكل بساطة أن على الجميع أن يشعر بهذا الخطر يتهدده شخصيا وماديا وبصفة مباشرة. أما الأصدقاء، فإنهم يحتاجون سردية يقدمونها للرأي العام في بلدانهم تكون قادرة على تبرير مساندتهم جرائم الإبادة وتمويلها والتغطية عليها. الضحايا وحدهم يعرفون أن الأمر يتعلق بصناعة بلاغية هدفها الوحيد جعل إبادتهم والقضاء على حقوقهم أمرا مقبولا وقادرا على الإطاحة بالحاجز الذي تمثله بقايا الأخلاق.

يؤكد المختصون في تاريخ النكبة أن عمليات الإبادة التي قامت بها العصابات الإرهابية الصهيونية قد بدأت منذ سنة 1947، وأن التخطيط لها قد انطلق قبل قرار التقسيم الذي أقرته الأمم المتحدة، وقبل دخول المقاتلين العرب لفلسطين بقرار من الجامعة العربية. شكلت تلك العصابات لاحقا ما سمي "بجيش الدفاع الإسرائيلي"، وهو الاسم الذي يحتفظ به إلى اليوم أكثر الجيوش إجراما في تاريخ البشرية، وأكثرها جرائم حرب منذ أن بدأ استعمال هذا المصطلح.

يشير المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابي بكثير من التفصيل والأدلة إلى أن خطة تطهير فلسطين من سكانها قد وضعت منذ 1937، وهي الخطة "دالت". لقد فرض اختيار فلسطين كأرض يقام عليها المشروع الصهيوني أن يتحول هذا المشروع، منذ اللحظة الأولى، إلى مشروع استيطاني. وعندما يكون على الأرض التي اختيرت لإقامة مشروع قومي مستورد سكان، فإنه لا مناص من تحول هذا المشروع إلى تطهير دموي وإبادة عرقية. بالنسبة لكل مشروع استيطان، يتعلق الأمر دائما بمساحة الأرض وعدد السكان. يعني ذلك ببساطة أن الأمر يتحول بسرعة قياسية، حين يقع التمكن من الوسائل، إلى قضم للأرض، وتطهيرها من سكانها الأصليين. لقد حصل ذلك في كل مشاريع الاستعمار الإستيطاني، من الجزائر إلى جنوب إفريقيا وقبل ذلك حتى في أمريكا الجنوبية والشمالية. هناك إذا علاقة وطيدة بين الاستعمار الاستيطاني وبين خطط التطهير العرقي.

إن خطة احتلال الضفة الغربية وغزة وضمهما إلى إسرائيل ليست بالخطة التي ظهرت في 1967 وكأنها نتيجة لمعركة انتصر فيها "جيش الدفاع" فربح مزيدا من الأراضي، مثلما تؤدي إليه عادة المعارك بين الجيوش في السياقات العادية. لم تنج الضفة الغربية من الضم في سنة 1948 إلا بسبب وجود اتفاق بين ملك الأردن آنذاك والمنظمات الصهيونية يكفل للأردن توسيعا في أراضيه يكون في الوقت نفسه تعويضا عن المساحة الصغيرة التي منحها له البريطانيون، والإلتزام في الوقت نفسه بعدم بذل جهود كبيرة في الحرب التي اندلعت في 1948 بين إسرائيل والعرب. بل إن خطة احتلال غزة تعود هي نفسها إلى بداية الخمسينات، أي غداة ثورة الضباط الأحرار في مصر التي اعتبرتها إسرائيل تهديدا لها. ستتطور الخطة غداة العدوان الثلاثي في 1956، لكن الأمر، بسبب عدد من التعقيدات الديبلوماسية، لن يصبح ممكنا سوى في 1967.

هل كانت حرب الأيام الستة حربا فرضت على الإسرائيليين مثلما حاولت السردية الصهيونية ترسيخ ذلك طيلة عقود؟ لا يزال المؤرخون الرسميون في الكيان الصهيوني يرددون هذه الكذبة الكبيرة، ولا تزال هذه السردية متبناة من قبل صانعي السياسات الغربية. لم تكن تلك الحرب دفاعية من قبل "جيش الدفاع". كانت قرارا عدوانيا لا يبرره أي شيء، سوى أكاذيب أخرى. عندما نعود إلى الأيام التي سبقت الحرب، لا نجد أن أي مسؤول صهيوني رسمي أو غير رسمي قد تحدث عن وجود نوايا عدوانية لدى المصريين أو السوريين أو حتى الأردنيين كما يقول إيلان بابي. كان الأمر مجرد بروبغندا حربية عدوانية تستهدف التبرير لاتخاذ القرار الذي أعاقت تنفيذه تعقيدات سابقة في 1948، أي ضم الضفة الغربية وقطاع غزة. في فيفري 1968 صرح إسحاق رابين، أحد قادة إسرائيل الأكثر عنصرية وإجراما والذي يقدم لنا الآن على أنه داعية سلام، بأن القوات المصرية في سيناء لم تكن قادرة على المبادرة بأي هجوم، ولم تكن بالتالي مخصصة لإشعال الحرب، فضلا عن أن تمثل تهديدا لإسرائيل.

لكن الأمر كان يقدم بصيغة مختلفة جذريا باستمرار. إن حاجة إسرائيل للعدوانية ولفرض قوة ردعها مسألة وجودية للمشروع الاستيطاني الصهيوني. من المهم أن نؤكد أن تقسيط إنجاز عمليات توسع الكيان لم تكن تخضع إلا لمنطق الاستعداد الذاتي لدى الساحة الداخلية الإسرائيلية، ولمقياس اختيار الوقت الأنسب للشروع في الإنجاز، وليس لأي اعتبارات أخرى. تاريخيا، عندما كانت إسرائيل تعتقد أنها أصبحت جاهزة، فإن التبريرات يتم صناعتها لاحقا بالطريقة التي تكفل لها توفير غطاء يرفع الحرج عن الأصدقاء الداعمين.

تحتاج إسرائيل اليوم، تجاه أصدقائها، لترسيخ فكرة أنها مهددة بالفناء في محيط معاد جذريا لها. لم يتغير الأمر بالنسبة للدعاية الصهيونية في هذا الخصوص حتى بعد إمضاء اتفاقيات سلام مع كل من مصر والأردن، وبعد نجاح التطبيع في اختراق عواصم عربية عديدة أخرى. تاريخيا، ومنذ 1948، فإن الحاجة للتبرير تنمو بالتوازي مع تنامي الشراهة للاستيطان والعدوان، وينمو مع ذلك في الوقت والاتجاه نفسيهما التطهير العرقي ضد الفلسطينيين. لم يعق وجود "سلطة فلسطينية" أقرت بشرعيتها إسرائيل نفسها في مسار مدريد أن تواصل قواتها الاعتداء على الفلسطينيين وطردهم من بيوتهم وافتكاك أراضيهم لفائدة المستوطنين، مغيرة بذلك الجغرافيا والديمغرافيا مثلما يقتضيهما أي مشروع استعمار استيطاني.

إن سكان غزة يدركون اليوم أن مشروع إبادتهم وطردهم مما بقي من وطنهم التاريخي مشروع قديم قدم الفكرة الصهيونية نفسها، وقدم دولة إسرائيل و"جيش الدفاع". هم يدركون ذلك لأنهم في معظمهم من لاجئي 1948 الذين دفعوا ثمن صمودهم طردا وتهجيرا وإبادة. لذلك فإنهم يعرفون أكثر من غيرهم أن القبول بالتبريرات الإسرائيلية للعدوان المتكرر عليهم هو مجرد تكرار لحلقات سابقة عاشوها بكل التفاصيل الكبيرة والصغيرة التي تتكرر اليوم. إنهم يذكرون على سبيل المثال أن القرى التي ظلت مسالمة تجاه العصابات الصهيونية، والتي حاولت مواصلة حياتها العادية في 1948 ولم يصدر منها إطلاق نار واحد ضد العصابات الصهيونية، كانت تلك التي أبيد سكانها أولا، ودمرت منازلها وأنشأت عليها مستوطنات ولم يعد فيها اليوم أي أثر لوجودهم. هذا ما يجعلهم مقتنعين اليوم أن القول بأن السابع من أكتوبر هو سبب ما يعيشونه من حرب منذ شهرين، ليس إلا تكرارا لدعاية صهيونية قاتلة، وأنه ليس أيضا إلا غطاء للتخاذل، ومقدمة تشرع الهزيمة بإلقاء الذنب عن كاهل إسرائيل وأصدقائها المجرمين.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات