حول الدينار والمليار والبليار.. وسباق الأصفار في تونس

الظاهر أن ما بدا للوهلة الأولى خطأ في كسور الأرقام ارتكبه الرئيس بضع مرات يتحول اليوم إلى ثقافة حكم. في الأزمة المالية الخانقة التي تمر بها تونس منذ أشهر طويلة، وفي ظل سعي نظام الرئيس قيس سعيّد إلى تحقيق إنجازات اقتصادية، يتزايد الحرص على إظهار نتائج إيجابية لطريقة التصرف التي تستعملها حكومته في المأزق الشامل الراهن.

ليس هناك، تقليديًا، ما هو أوضح من الأرقام لتأكيد نتائج مماثلة. المشكل أن الأرقام لا تقول، في معظمها على الأقل، أشياء جميلة. وسواء تعلق الأمر بعدد أيام الإنفاق من العملة الصعبة في حسابات البنك المركزي، أو بنسب البطالة، أو بعدد أطنان الفسفاط التي تستخرج وتنقل وتصدر، فإن هناك شيئًا واضحًا للجميع اليوم، وهو أن الأخبار غير سعيدة.

وإذا كانت الإمكانات الذاتية محدودة فعلًا في مجابهة هذه الأزمة، فإن خناقًا آخر ما فتئ يشتد حول رقبة الاقتصاد، وهو ذاك المتمثل في وعود الإنقاذ التي تلوح بها المؤسسات الدولية المانحة، والتي تعترض إمضاء تونس عليها إشكالات كبيرة. في المحصلة، الوضع يزداد سوءًا يومًا بعد يوم حيث تغرق البلاد في شراك الابتزاز الأجنبي دون قدرة حقيقية على الفكاك.

في الحالة التونسية الراهنة، هناك مشكل آخر كبير، وهو تراجع قدرة الدولة على التعامل العقلاني مع الأزمة. في كل الحلول التي تقترحها سلطة قيس سعيّد، يبدو أن هناك مشكلاً أصليًا يتمثل في انعدام العقلانية التي تقتضيها مواجهة أي مشكل بمثل هذا التعقيد.

إن أكبر مثال على ذلك هو إصرار الرئيس على موضوع الصلح الجزائي وانتظاره توفير حوالي 15 ألف مليار من المليمات التونسية. نعرف اليوم من أين أتى الرئيس بهذا الرقم، لكننا نعرف أيضًا أنه رقم غير عقلاني. بحسب عدد من المطلعين، فإن الملفات الثلاثمائة والخمسين التي ينتظر أن تعود بمداخيل على الدولة في سياق الصلح الجزائي، قد تضاءلت إلى الثلث، وقد كان ذلك متوقعًا منذ البداية من الجميع تقريبًا، ما عدا الرئيس. يجب الآن، بناء على ذلك، تخفيض توقعات المداخيل من الصلح الجزائي، ولكن هناك من لا يريد التفكير في الأمر.

تشتغل لجنة الصلح الجزائي اليوم من دون رئيسها الذي عزله قيس سعيّد، فيما بدا وأنه تحميل مباشر لمسؤولية فشل اللجنة في جمع الأموال الموعودة. وبالرغم من أن القانون الذي وضعه قيس سعيّد بنفسه لتنظيم عمل هذه اللجنة يقتضي أن يعيّن رئيسًا لها في غضون عشرة أيام فقط، فإن اللجنة اليوم دون رئيس منذ عدة أشهر.

في آخر زيارة له لمقر اللجنة منذ أيام، صرح عضو في اللجنة بأن هذه الأخيرة حصلت فعلاً مبلغ خمسة مليون دينار أودعت في حسابات الدولة. هذا يعني أنه فعليًا، لم تحصل لجنة الرئيس بعد حوالي ثمانية أشهر من انطلاقها وقبل أربعة أشهر فقط من نهاية دورتها الثانية، وهي دورتها الأخيرة، إلا على ما نسبته جزءًا واحدًا من 2700 جزءًا المتوقع. الأمور تسير ببساطة نحو فشل ضخم وانهيار العمود الرئيسي لبناء الإنقاذ الاقتصادي الذي صنع منه قيس سعيّد برنامجه منذ سنوات طويلة.

هناك عدم قدرة واضحة لدى قيس سعيّد على فهم الأرقام، وعلى التمييز بين الوحدات. هذا أمر أصبح الآن معروفًا بالتجربة. لكن ما أصبح أكثر وضوحًا هو أن من يستغل ذلك اليوم ليسوا خصومه فحسب، بل معاونوه.

وفي حين يمكن التغاضي عن سخرية المعارضين، فإن الخسائر التي يسببها معاونو الرئيس أكبر بكثير من نتائج السخرية. ففي نفس اللقاء مع أعضاء لجنة الصلح الجزائي صرحت عضو اللجنة بأن هذه الأخيرة قد تلقت عرضًا للصلح من مواطن في السجن يعرض "30 بليون دولار" على الدولة في مقابل الاستفادة من العفو، كما يقتضي قانون الصلح الجزائي.

الحقيقة أن الرئيس استغرب ارتفاع الرقم هذه المرة، وبعد نقاش خفيف حول الكسور والوحدات، فإن المليارات استقرت على عشر أمريكية، أي خمسة أضعاف مبلغ القرض الذي تتفاوض عليه البلاد منذ أزيد من عامين مع صندوق النقد. سيتضح لاحقًا أن طلب الصلح صدر بالفعل، ولكن عن مواطن لا يملك مليمًا واحدًا حسب محاميه، وأنه يشكو من اضطرابات نفسية، ما تحوّل إلى حالة عامة من السخرية من اللجنة ومن مشروع الصلح ذاته.

يجب في الحقيقة أن نذكر بأن الرئيس كان قد قال في كلمة رسمية له عن مظاهرة ضمت بضع مئات من أنصاره في بداية أكتوبر/تشرين الأول 2021 أن عددهم كان مليونًا وثمانمائة ألف متظاهر، أي سدس سكان البلاد، وهو ما يجعل استغرابه من رقم عضو اللجنة هذه المرة غريبًا.

قبل ذلك بحوالي أسبوع، صرح صحفي ينشط برنامجًا على إذاعة "جوهرة" الخاصة بأن أحد المواطنين التونسيين المقيمين بالخارج قد اتصل به وأمده بملف حول إمكانية توسطه من أجل حصول البلاد على قرض بدون فوائد يسدد على ثلاثين عامًا، قيمته مائة مليار دولار أمريكي. أي خمسين مرة حجم القرض الذي تفاوض عليه تونس صندوق النقد الدولي دون جدوى.

الغريب أن رئاسة الجمهورية، بحسب نفس الصحفي، قد أرسلت لطلب الملف، ثم توقف الحديث في الموضوع تمامًا. ويوم 25 جوان/يونيو الجاري، نشرت جريدة الشروق عن "رجل أعمال" تونسي قوله إنه مستعد، هو الآخر، للتوسط من أجل حصول الدولة على قرض بأربعمائة وعشرين ألف مليار" بلا فوائض يسمح بخلاص كل الديون الخارجية للبلاد كما يوفر تمويل كل المشاريع الممكنة لمدة عشر سنوات.

قبلهم جميعًا كان رئيس "حزب تونس إلى الأمام "عبيد البريكي، القيادي النقابي السابق في الاتحاد العام التونسي للشغل، والوزير السابق في "عهد العشرية السوداء"، والمساند الكبير لقيس سعيّد منذ الخامس والعشرين من جويلية، قد تحدث عن استعداد رجال أعمال لتوفير قرض دون فوائض بقيمة ثمانين مليار دولار وهو ما سيسمح بخلق مليون موطن شغل.

هناك سباق متسارع بين الأرقام كلما تسارع نسق الأزمة المالية الحالية التي تتخبط فيها البلاد، وفي هذا السباق فإن تزايد عدد الأصفار أمر مثير للانتباه في أدنى الحالات. الأمر متعلق هنا بسلوك عادي في السياق الذي تتطور فيه سلطة قيس سعيّد، وهو ما يمكن التعبير عنه بظاهرة تزايد عدد المحتالين عندما تقع إزاحة الخبراء من المشهد بدعوى التوجس من النخب.

لا يمكن تلافي هذه الظاهرة أيضًا عندما يتعلق الأمر بالمعاونين الذين تعوّل عليهم السلطة، فإنهم يسقطون في نفس السلوك المحتال عندما يتلمسون نقاط الضعف فيها، ويقررون أن يجعلوا من ذلك سلمًا للتزلف لها. الأمر متعلق بطبيعة تأبى الفراغ، وبصنف جديد من البشر الذين يحل ركبهم في أحواز السلطة عندما توغل هذه السلطة في السلوك غير العقلاني.

لقد وصل الأمر بأحد المواطنين إلى طلب أن تخصص له الدولة طائرة هليكوبتر لمدة أسبوع للتحليق بها في أجواء البلاد من أجل استكشاف ثرواتها الطبيعية. لم يسبق للبلاد أن بلغت هذا الحد من السريالية في السابق، أصبح الأمر أكيدًا الآن.

في خضم ذلك كله، وحتى في علاقة بقرض صندوق النقد الذي لا يأتي، فإن هناك ثقافة تواكل تزيد ترسخًا يومًا بعد يوم، حيث يبدو الشعب في انتظار اكتشاف كنز كبير جدًا ينال كل أفراد الشعب نصيبهم منه دون تعب ولا كد.

هناك أموال ضخمة سهلة يقع انتظارها، وكلما تعمقت الأزمة زاد تواتر هذه الأرقام وزادت أصفارها. سياسيًا وثقافيًا وعقلانيًا، تسير الأمور في نفس الاتجاه: كلما زاد توجس سلطة قيس سعيّد من النخب والخبراء، كلما أصبح المجال فسيحًا لقدوم فصيلة من المحتالين والمتزلفين الذين يغرقون الرئيس والرأي العام في الانتظارات غير العقلانية.

نسي الجميع في خضم كل هذا الضجيج حول الأرقام أن يسأل الرئيس وحكومته: هل هناك خطة ما لجعل قرض صندوق النقد قادرًا على دفع التنمية، أم أنه سينفق كالعادة في توريد الحبوب للأكل؟

هناك إذًا سياق عام تعتقد فيه السلطة وأنصارها أن الأموال موجودة وأنها قادمة بكثرة، وأن الأمور لا تتطلب بالتالي دعوة الشعب إلى العمل، بل تعتبر أن دورها مقتصر على توزيعها على أفراد الشعب الذي "نكلت به اللوبيات" ونهبت ثرواته منذ عقود من الزمن.

نحن فعلاً في الدرجة الصفر من الشعبوية حيث تقوم الدولة، في سياق شديد التأزم، بمواجهة الكارثة بأفكار عامة جدًا، وبجيش من المحتالين والمتزلفين وجمهور يرغب في تصديق كل الأوهام طالما لم يقع تحميله أي مسؤولية ولم يتم إرهاقه بطلب الكد وبذل الجهد الضروري لإنتاج الثروة.

ليست للشعبوية في درجتها الصفر أي شجاعة لمواجهة الأزمات باتباع الأساليب العقلانية. في الحالة التونسية اليوم، لا يزال كثير من الناس عاجزين بالفعل عن توقع انعكاسات الكارثة. نفس هؤلاء الناس لا يزالون يعتقدون أن سلطة قيس سعيّد قادرة، بطريقة تصرفها التي خبرناها الآن وبوعود المحتالين المتكاثرين من حولها، على إنجاح أي برنامج إنقاذ اقتصادي.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات