تكليف السخرية والعقاب

Photo

قلت في عدد من التصريحات الإعلامية، وآخرها البارحة، أن قيس سعيد لن يكلف أحدا من مرشحي للأحزاب بتشكيل الحكومة، وأن المقياس الأساسي لديه في الاختيار هو الثقة في أن الشخصية المكلفة ستكون مستعدة لإعادة "الأمانة" إليه عند الضرورة، لأنه ببساطة لن يفرط في ورقة التكليف مجددا بعد أن قدمت إليه على طبق وردي. هذا يفترض ألا يكون لأي مكلف أي سند برلماني قد يشجعه يوما ما على شق عصا الطاعة، وعلى كسر المنطق الذي كلف على أساسه بمهمة تشكيل الحكومة.

لا أعتقد أن رئيس الجمهورية بقي مترددا للحظة الأخيرة في اختيار "الشخصية الأقدر"، بل إن المنطق يقول أن الإختيار كان قد وقع بالفعل على السيد المشيشي، وأن كل الحركات التي وقعت خلال الأيام الأخيرة كانت للتعمية على هذا التعيين. هذا سيء للأحزاب جميعا، لأن تعامل الرئيس معها، ودون أي استثناء، كان تعاملا ينقصه كثير من الاحترام لها، لقراءاتها، وتوقعاتها، وتصورها لدورها.

المزعج في عملية التكليف أن الرئيس اختار إحياء "تقليد" قديم، لا يرتاح له أحد، وهو إيصال وزير داخلية مباشر لرئاسة الحكومة. لا أعتقد أن المعنى كان غائبا عن الرئيس، ولا عن أحد من الذين شاركوا في تنضيج القرار، بل إن المسألة تأخذ بعدها الكامل بمراجعة تصريحات وتلميحات وزيارات واستقبالات الرئيس في المدة الأخيرة. الرئيس يرغب في وضع خيار التعامل الأمني كخيار جاهز ضد من يعتبرهم، منذ مدة، خصومه الأساسيين.

هذه افتراضات، لكن الواقع أصبح التالي: رئيس جمهورية يستأثر بكامل القرار التنفيذي، ويوحد السلطة التنفيذية حول شخصه وحول دائرة ضيقة من "الأوفياء" ممن لا ماضي سياسي لهم، ومن المُستعدّين للسير في أي طريق يختاره. هذا ليس جيدا للديمقراطية، في الحد الأدنى. كل الإخراج التواصلي لدور الرئيس في الأيام الأخيرة، وخاصة اليوم، جعل الناس تستعيد صورة حاكم وحيد للبلاد، يتوقف كل شيء على رغبته الشخصية، يتابعه الناس في أدق تفاصيل يومه، وينتظرون عاجزين، وآملين، أن ينطق بكلمة واحدة. هذا ليس جيدا للديمقراطية أيضا، وفي الحد الأدنى أيضا.

قد يعتقد البعض أن المستهدف بهذا التكليف هو معاقبة حركة النهضة، التي يعتبرها رئيس الجمهورية المسؤولة الأولى عن إسقاط حكومة الفخفاخ، كما يعتبر (ربما) أنه كان المستهدف من كل ذلك المسار. إعتقادي أن المستهدف من هذه الطريقة في التكليف والتصرف ليس النهضة فقط، بل كل الأحزاب وكل البرلمان. بهذا التكليف، وباعتباره أنه غير مطالب أصلا بالتفسير والتبرير، يقول الرئيس أن كل ما أسفرت عنه الانتخابات أصبح، واقعيا، أمرا لاغيا. هو يضع السيف ليس على رقبة النهضة فقط، بل على رقاب الجميع. هذا سيء جدا للديمقراطية.

أصبحنا واقعيا تحت نظام رئاسي، بدستور لنظام شبه برلماني، مع اتجاه واضح لمركزة القرار في يد شخص واحد مستفيدا من بعض ثغرات الدستور، وخاصة من عدم وجود محكمة دستورية. لسوء الحظ، نادرة جدا، في التاريخ، الحالات التي أسفرت فيها هذه الوضعية عن ترسيخ الديمقراطية!

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات