الاشتراكي الأخير : داسيلفا وفلسطين والمحرقة

أعلنت حكومة البرازيل عن طرد السفير الإسرائيلي لديها وقامت باستدعاء سفيرها لدى تل أبيب في خاتمة تبادل خطابات حادة بين البلدين في الأيام الأخيرة. هذه هي المرة الأولى التي تسمح فيها دولة كانت من أول الدول المعترفة بقيام دولة إسرائيل بناء على قرار التقسيم في 1948 (كانت البرازيل نفسها ترأس آنذاك مجلس الأمن الدولي) بوصول الخلاف مع إسرائيل إلى هذه الدرجة من التوتر.

قبل "داسيلفا"، كانت العلاقات بين الدولتين هادئة عموما ليتطور موقف البرازيل بعد ذلك تصاعديا إلى الحد الذي وصلت إليه مع طرد السفير الصهيوني. لم يقبل "داسيلفا" أن تقوم وزارة خارجية الكيان الصهيوني بدعوة سفير البرازيل لديها لتوبيخه بشأن تصريحات الرئيس التي شبه فيها ما يحصل في غزة بأنه محرقة لا تختلف في شيء عن المحرقة النازية ضد اليهود في خضم الحرب العالمية الثانية، كما لم يقبل تصريح رئيس الكيان باعتبار "داسيلفا" غير مرغوب فيه في "إسرائيل" طالما لم يعتذر عن تصريحاته الحادة. كان يمكن تجاوز ذلك ديبلوماسيا في الحقيقة، لكن غضب داسيلفا كان أساسا بسبب المحرقة الحالية والتي تستمر منذ أشهر ضد الفلسطينيين. نحن إذا بإزاء أزمة جوهرية وليس فقط خلافا ديبلوماسيا.

في الحقيقة، كان "داسيلفا" قد أدان هجمات السابع من أكتوبر واعتبرها إرهابية، وهي الهجمات التي سقط فيها ثلاثة مواطنين برازيليين وأعلن عن فقدان رابع، يحمل جميعهم أيضا الجنسية الإسرائيلية. لكن "داسيلفا" معروف بمواقف مستقرة في مساندة الحق الفلسطيني، فقد أعرب عن أول مواقفه في مساندة حق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة بناء على القرارات الأممية وعلى مسار مدريد، على أراضي 1967، كما أفرد لفلسطين حيزا من خطاباته في الأمم المتحدة منذ 2009 بالدعوة إلى ضرورة احترام إسرائيل للقرارات الدولية، وبالمطالبة بإخراج قضية فلسطين من احتكار القوى الكبرى التي يعتبر أنها قد فشلت أخلاقيا وسياسيا في التعامل مع هذه القضية.

إن قصة الكفاح التي يمثلها الاشتراكي "لولا داسيلفا"، والتي تلخصها مسيرته النقابية والسياسية، ووقوعه تحت ضغط تآمر أقصى اليمين البرازيلي مع النفوذ الأمريكي، ومناهضته للإمبريالية الأمريكية، ونجاحه في تحقيق تقدم اقتصادي لبلده وفي تحصيل الفقراء على مكاسب اجتماعية هامة، وعنايته بالقضايا البيئية، وغيرها من العوامل التي يمكن استنتاجها من مسيرته الطويلة بين الأحياء الفقيرة والسجون والحكم، تمثل جميعها نقطة إلتقاء أساسية مع كل القضايا الإنسانية، سياسية كانت أو اجتماعية.

كان سلف "داسيلفا" ، "بولسنارو"، قد وعد بنقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس أثناء زيارته للكيان الصهيوني في مارس 2019، وهو قرار لم تنفذه السلطات البرازيلية بسبب ما كانت تتوقعه من ردود أفعال على علاقاتها الاقتصادية بالدول العربية والإسلامية. ومثل رئيس الأرجنتين الجديد "مايلي"، كانت تل أبيب من أول الوجهات التي سافر إليها اليميني المدعوم من الولايات المتحدة "بولسنارو"، وفيها وعد بتطوير التعاون مع الكيان في الجوانب الاقتصادية والتكنولوجية، خمسة أشهر فقط بعد انتخابه رئيسا للبلاد في مواجهة "داسيلفا" المنتهية ولايته آنذاك.

كان ذلك نوعا من الإعلان عن نهاية فترة التعاطف الاشتراكي مع فلسطين ودليلا على ارتباط الولاء لأمريكا بالتعاون مع الكيان الصهيوني، مثل ما يحدث اليوم مع رئيس الأرجنتين تماما. وعلى النقيض من "داسيلفا" القادم من النشاط النقابي ومن حقل العمل اليساري، كان "جايير بولسنارو" الذي حظي بدعم اليمين البرازيلي وأوساط رجال الأعمال والولايات المتحدة، قادما من المؤسسة العسكرية، نفس تلك المؤسسة التي واجه "داسيلفا" في شبابه غطرستها واستيلاءها على السلطة وحكمها الدموي.

كانت أول إجراءات "داسيلفا" بعد فوزه بالانتخابات الأخيرة إقالة "دي فيرنتس" سفير بلاده (العسكري السابق أيضا) الذي عينه "بولسنارو" لتمثيل المصالح البرازيلية في إسرائيل. وتبع ذلك مباشرة تصريح لوزير الخارجية البرازيلي الجديد يفسر هذه الإقالة بأن البرازيل ستعود لسياستها الخارجية التقليدية بمساندة القضايا العربية وفي مقدمتها قضية فلسطين، وأن ما وقع تحت حكم "بولسنارو" من تقارب مع إسرائيل هو مجرد استثناء انتهى.

وبالفعل ففيما عدا فترة "بولسنارو" الموالي تماما للولايات المتحدة، كانت مواقف البرازيل مساندة تقليديا لقضية فلسطين، وقد ظهر ذلك بوضوح في عهد الرئيسة "ديلما روسيف" التي طلبت في 2014 من سفيرها لدى الكيان العودة للبلاد بسبب العدوان الصهيوني على غزة آنذاك، أثناء عملية "الجرف الصامد". وفي سنة 2016 رفضت الخارجية البرازيلية اعتماد السفير الإسرائيلي الجديد في برازيليا "داني دايان"، والذي كان قرار تعيينه قد صدر بالفعل رسميا عن الحكومة الإسرائيلية، ما مثل إهانة لتل أبيب. لقد بررت الحكومة البرازيلية قرارها ذاك والذي مثل سابقة ديبلوماسية دولية، بأن السفير الجديد كان مديرا سابقا لمجلس "يشع" الاستيطاني، وبسبب أنه كان يعيش في مستوطنة بنيت على أراض فلسطينية نهبها الاحتلال.

تشق البرازيل إذا صراعات رئيسية بين اليمينيين الموالين للولايات المتحدة واليساريين المناصرين لقضية فلسطين والكفاح ضد الإمبريالية، وهي صراعات لا تظهر في مواضيع الاقتصاد والبيئة فحسب، بل أساسا في مواضيع السياسة الخارجية وبالخصوص حول فلسطين. لقد شاركت زوجة "بولسنارو" في الحملة الانتخابية الأخيرة لزوجها ملتحفة بعلم إسرائيل، وهو دليل واضح، في الساحة البرازيلية على الأقل، بأن التبعية للولايات المتحدة تعني آليا مساندة الكيان الصهيوني.

كانت فلسطين باستمرار في خضم الصراع السياسي الداخلي للبرازيل، حيث كانت زيارة "بولسنارو" للكيان الصهيوني في 30 مارس 2019 قد تزامنت مع مظاهرات هامة في برازيليا احتفالا بيوم الأرض الفلسطيني رفعت فيها الشعارات المساندة للحقوق الفلسطينية ووقع التعبير فيها أيضا على المواقف التاريخية للبرازيل إزاء هذه الحقوق. هذه المواقف التقليدية التي رسختها علاقات متشابكة بين أبناء الجاليات العربية والاشتراكيين البرازيليين منذ عقود، والارتباط على الضفة الأخرى بين اليمينيين والعسكر والولايات المتحدة وإسرائيل، هي ما منع باستمرار من أن يكون ليهود البرازيل الذين يعدون حوالي المائة والعشرين ألفا (والذين بدأوا القدوم إليها منذ طردهم من إسبانيا في أواخر القرن السادس عشر وبدايات القرن الموالي) تأثير حاسم على السياسات الخارجية البرازيلية في العهود الاشتراكية.

إن المقارنة التي قام بها "داسيلفا" بين الحرب الهمجية الحالية على غزة وبين محرقة اليهود على يد النازيين، والتي أغضبت حكومة الكيان الصهيوني كثيرا بما أخرجها عن طورها الديبلوماسي، تأتي في سياق تطور طبيعي للتعبيرات البرازيلية التقليدية عن مساندة الحقوق الفلسطينية. هذا الغضب الإسرائيلي يمكن فهمه بوضوح، إذ أن هذه المقارنة لا تأتي من دولة عربية أو إسلامية، بل من دولة بعيدة جغرافيا عن مسرح الصراع، ولكن ذات تأثير معنوي في قارتها وفي بيئتها الاشتراكية وفضائها الجغرافي المشحون بتقاليد مناهضة الإمبريالية الأمريكية. لقد داس "داسيلفا" بذلك إحدى المحرمات الكبرى في السردية الصهيونية التي تجعل من المحرقة، معنى ولفظا، احتكارا أبديا لإسرائيل يغذي مظلوميتها ويحجب جرائمها، بما فيها تلك التي يمكن وصفها، موضوعيا، بالإبادة. لذلك فإن إسرائيل تدرك بسهولة الضرر الذي أحدثه بها "داسيلفا".

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات