في شهر الانقلاب: لماذا حدث الانقلاب؟ -2-

-3- نُخبة غير مستعدة وأفكار إصلاحية

برغم ان شروط الثورة كانت تتراكم على مدى عقود، الا ان لحظة وقوعها قد فاجأت الجميع، سلطة حاكمة ونُخب معارضة، وحتى الدوائر العالمية. انظر صحيفة الغاردين "لماذا كانت الثورة التونسية مفاجئة؟" 1/2/2011 . اما عدم استعداد النخب المعارضة فهذا حديث يحتاج الي تفصيل:

تنقسم النُّخب المعارضة للأنظمة العربية الي ثلاث مدارس: المدرسة اليسارية والقومية والإسلامية. لقد عرفت هذه السرديات هُزالا كبيرا لعدة عوامل انتج ضمورا لفكرة الثورة في حد ذاتها واتجاها واضحا نحو فكرة الإصلاح: لقد شوهت التجربة الستالينية فكرة الثورة في اذهان الناس وجعلها تقترن بالاستبداد.

الامر الذي أدى الي نفور كبير من فكرة التنظيم الثوري بوصفه نذيرا بالبِنية والسلطة. اما خلال الحرب الباردة فقد توخّت الدول الراسمالية سياسية مُخاتلة قدمت فيها الكثير من التنازلات للطبقة العاملة بل تبنّت أحيانا سياسات "شيوعية" مثل تدخل الدولة والتخطيط الاقتصادي والسياسات الحمائية والمعونات الاجتماعية و"الدولة الراعية" والديمقراطية الاجتماعية، وهو مايُعرفُ ب"الصفقة الجديدة" او "الكينزية.

هذا الامر "جفف منابع" الفكر اليساري الثوري، فاصبح العمال في الكتلة الشرقية يحسدون زملائهم في الكتلة الغربية. اذا اضفنا الي هذا انهيار الاتحاد السوفياتي فإننا سنفهم لماذا تحول اليسار الي حركات مبعثرة بين النقابات ومنظمات المجتمع المدني: مجرد حركات مطلبية وحقوقية من داخل النظام الليبرالي. عندما حدثت الثورات كان هؤلاء قد اصبحوا اصلاحيين وبيروقراطيين وجزء من الأنظمة القائمة،مع قليل من الاستثناءات، كحزب العمال في تونس.

اما القوميون فقد كانت لهزيمة الناصرية اثر بالغ في ضعفهم، وحتى عصمت سيف الدولة الذي نظّر للثورة فقد انتهى الامر باتباعه الي قبول الدولة القطرية كأمر واقع والتعامل معها، وقد بُنيت كل "نظرية الثورة العربية" على عدم الاعتراف بها والثورة عليها وتدميرها. لقد وقعت الثورات لتجد الحركات القومية العربية قد تخلت عن فكرة الثورة على السلط القائمة وتحولت الي حليف لها (انظر عبد الاله بلقزيز "الحركات القومية العربية من المعارضة الي موالاة السلطة). لقد كانت فكرة الثورة في الفكر القومي لصيقة الي حد بعيد بفكرة الوحدة العربية وفكرة الاشتراكية، الامر الذي جعل انهيار التجارب الوحدوية وفشل التجربة الاشتراكية السوفياتية يؤدي الي انهيار فكرة الثورة، وتحوّل القوميين الي اصلاحيين. وهذا يفسر لنا تحولهم الي النقابات وانشاءهم لاحزاب في ظل الأنظمة القائمة: لقد تغيّر التكتيك من الثورة الي "الصراع من الداخل". عوض الثورة على الدولة القطرية اصبحوا يريدون العمل في أجهزتها. لم يقم "التيار القومي التقدمي"، او "الحركة العربية الواحدة" بالثورات العربية كما نظّر لذلك عصمت سيف الدولة في الجزء الخامس من "نظرية الثورة العربية"، لذلك قابل هذا التيار الثورات بالكثير من التردد والتناقض والتشكيك: فقد ساندها في تونس وعارضها في ليبيا، وساندها في مصر وعارضها في سوريا، وساندها في السودان لانها أطاحت بالبشير، وشكك في "الحراك" الجزائري.

اما الحركات الإسلامية فمتعددة الوجوه، ويمكن ان نفصل اجرائيا بين اربع منها: الإسلام اليساري المناهض للرأسمالية الذي الهم الثورة الإيرانية والذي نظّر له علي شريعتي وحسن حنفي والهندي اصغر علي انجيز والسوداني محمود محمد طه في "رسالة الإسلام الثانية" وسيد قطب. كان هذا التيار ثوريا ومتاثرا بتيار لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية، وبدرجة اقل بالاشتراكية، وكان يستهدف المساواة والعدالة الاجتماعية في توزيع الثروة وتحرير الطبقة العاملة. لقد كانت حينها هذه الدعوات قوية الي درجة ان الإسلاميين ما كان بإمكانهم تجاهلها. لقد اتى علي شريعتي بمفاهيم الامبريالية والصراع الطبقي والثورة من ماركس و وطّنها في الخطاب الإسلامي، فأضفى بذلك شرعية فكرية واجتماعية على ما كان يدعوه ب"الشيعية الحمراء" او "الثورية" (انطر التشيّع العلوي والتشيع الصفوي، ترجمة حيدر مجيد). اما محمود محمد طه فدعا الي العودة الي "الإسلام المكّي" الذي ركّز على بناء المجتمع والعدالة والمساواة بين البشر، ودعا الي "نظام يوفق بين حاجة الفرد الي الحرية وحاجة المجتمع الي العدالة الاجتماعية من خلال إقامة نظام اشتراكي ديمقراطي" .

في مواجهة هذا التيار الثوري والانسانوي الذي انتصر -مؤقتا- في ايران، شجعت السعودية والولايات المتحدة تيار إسلامي هووي وعنيف يرفض الديمقراطية والانتخابات وفكرة الدستور والمساواة والتوزيع العادل للثروة. استعملت السعودية هذا التيار لمواجهة الأفكار اليسارية التي وصلت الي الجزيرة (ثورة ظفار واليمن الجنوبي)، واستعملته الولايات المتحدة لضرب الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، واستعملاه معا لضرب الثورات العربية. لقد كانت داعش صنيعة الاستخبارات العربية والغربية لإجهاض الربيع العربي (انظر صحيفة الغارديان "الان تظهر الحقائق" 3 جوان 2015)، اما فرنسا فقد مولت داعش ب5 مليون دولار عبر شركة لافارج وقد اثبت القضاء الفرنسي ذلك (انظر ليبيراسيون 31 مارس 2023).

ان ما يعنينا أساسا هو "الإسلام الليبرالي" الذي ابتعد كثيرا عن ثورية وراديكالية سيد قطب، كما تخلص من يسارية واشتراكية علي شريعتي وحسن حنفي. لقد أدى انهيار الاتحاد السوفياتي الي هيمنة النيو-ليبيرالية على الجميع. يسمي المفكر الإيراني اليساري اصف بيات هذا التيار ب"مابعد إسلامية" لأنه تخلى عن خمس نقاط أساسية: فكرة الثورة لقلب انظمت الحكم، وفكرة إقامة الخلافة، وفكرة اتخاذ القران دستورا للمجتمع، ورفض العلمانية واعتبار الديمقراطية فكرة غربية وغريبة. يمثل هذا التيار حزب العدالة والتنمية في تركيا، وجماعة -ي إسلامي في الهند، وحركة الإصلاح في ايران، وحزب النهضة في تونس، ومجتمع السلم في الجزائر والعدالة والتنية في المغرب.

ان مواصلة وصف هذه الأحزاب ب"الإسلام السياسي" هو من قبيل المزايدة السياسية والبحث عن تمايزات وهمية في الوقت الذي أصبحت فيه الحدود غائمة وغير واضحة بين الجميع وقبلوا جميعا بالاقتصاد الليبرالي و بفكرة اصلاح الدولة القائمة. لقد عمل حزب العدالة والتنمية مع صندوق النقد الدولي منذ وصوله الي السلطة في 2001، وقلّص الانفاق العام وراقب الأجور،وتراجع عن الدعم الزراعي، وخصخص المؤسسات والموارد الطبيعية، وساعده في ذلك مجتمع مدني قوي اضفى طابعا قدسيا على النويوليبرالية.

اذا كان يمكن ان تمر هذه السياسات في دولة قوية مثل تركيا دون ان تُحدث ثورة مضادة، فان استمرار نفس السياسات التي أدت الي الثورة في تونس سيكون كارثيا: لم يكن لحركة النهضة أي أفكار اقتصادية بديلة عن سياسة إعادة الهيكلة التي أدت الي اثنتي عشرة تظاهرة احتجاج في الولايات الداخلية قبل الثورة. صحيح ان الامر تداخلت فيه الكثير من العراقيل الداخلية والخارجية، وكانت الانتظارات مرتفعة جدا، كما ساهم الصراع الأيديولوجي، الذي لخّصه السيد العباسي في قوله "لم نترك النهضة تلتقط أنفاسها يوما واحدا"، في ارباك الوضع، ولكن أيضا لم تكن للنهضة أفكار حول إعادة توزيع الأراضي ومحاربة الاقتصاد الريعي والعدالة الضريبية وتحسين الصحة والتعليم والنقل، وقد زاد توافقها مع نداء تونس ثم تقاربها مع قلب تونس في مزيد خسرانها للرصيد الشعبي الذي انتخبها في 2011. لقد جعلتها طبيعتها الإصلاحية واللبرالية تعتقد انه بمجرد إرساء المؤسسات وكتابة الدستور واجراء الانتخابات ستتحسن الأوضاع، في حين كان عليها السير في الاتجاه المعاكس : تحسين الأوضاع وكسب الناس لضمان استقرار الديمقراطية.

هذا ماجعلها مدفوعة بالاحداث باحثة عن التحالفات في اجل ضمان مجرد البقاء، خاصة بعد الاغتيالات وبعد ما حدث في مصر.ولقد استثمر الانقلاب وخطابه الشعبوي في هذه "الفريضة الغائبة". ان وضع اكثر الدساتير علمانية وديمقراطية في المنطقة العربية، والاعلان الرسمي على الفصل بين النشاط الديني والعمل السياسي لا يُغني ابدا عن كسب الناس اجتماعيا حتى تقترن في اذهانهم المصلحة المادية بالديمقراطية، وعلينا دوما ان نعيد قراءة لامبالاة الناس تجاه ما فعله الانقلاب بالدستور والمؤسسات المنتخبة بوصفها نتيجة حتمية للامبالاة الطبقة السياسية تجاه مشاكلهم الحياتية.

-4- شارع ثوري ونُخب محافظة

كانت الثورة في تونس نتاجا للتناقض الصّارخ بين الدولة ومجالها الاجتماعي، أي بين المركز والهامش، بين الولايات التي اعتبرتها السلطة "قاطرة التنمية" وبين الدواخل التي اعتبرتها مجرد خزان لليد العاملة الرخيصة. حدثت الثورة لان النظام السياسي الذي تأسس غداة الاستقلال لم يعد يُحضى بالشرعية التي تسمح له بالتواصل. النظام السياسي هو ترابط بين جملة من الفاعلين والمؤسسات والتنظيمات ، ويرتكز على خطاب من الأفكار والمعايير والاهداف تُشكل جميعها سرديته المؤسسة، انه ترابط بين السلطة السياسية والبنية الاقتصادية والتنظيم الاجتماعي.لتوضيح التناقض بين الدولة ومجالها الاجتماعي فإننا نكتفي بالملاحظات التالية:

تعترف وثيقة "الأفاق العشرية للتنمية" لسنة 1961 "بوجود فوارق جهوية"، وان هناك "جهات تشهد كسادا"، اما الوثيقة الجهوية لإعداد المخطط السادس فتعترف بان "الجهات الغربية والجنوبية في تبعية للمدن الكبرى الشاطئية". توصي وثيقة المخطط العاشر 2002/2006 الي "مزيد تاهيل الولايات الساحلية".

اما "المثال التوجيهي للتهيئة الترابية" (أكتوبر 1997) فنجد فيه "ان تنمية الجهات المهمّشة قد يتضارب مع الواجب الوطني"، وان "التفاوت في التنمية امر طبيعي"، و"تتطلب المصلحة الوطنية مزيد التركيز على المناطق الأفضل موقعا ". اما نصيب الفرد من الدخل القومي الخام فقد بلغ في سيدي بوزيد سنة 2008 الف وثلاث مائة دينار وفي سليانة سبع مائة واثنان واربعون دينار، بينما بلغ في سوسة ثمان الاف دينار في المنستير ثمان الاف وتسع مائة دينار.في سنة 2014 وبعد انتصار نداء تونس وقع رفض التمييز الإيجابي بين الجهات الذي اتى به دستور 2014، اما بين 2014 و 2019 فان حجم الاستثمارات في "الولايات الأفضل موقعا" فبلغ ثلاثة اضعاف الاستثمارات المرصودة لباقي جهات البلاد. هذه بعض ملامح النظام الذي رُفع ضده شعار "الشعب يريد اسقاط النظام"، ولكن لم تكن هناك نخبة ثورية، بل لم تقم بالثورة وانما كانت إصلاحية، تراوح دورها بين المحافظة على النظام القائم او التفاوض معه في افضل الحالات.

في مُقابل الانتشار السريع والتحشيد الاستثنائي للثورة التونسية، وفي مقابل الشجاعة والتصميم والتضحيات التي ابداها الشباب المنتفض الذي واجه الة العنف الأمني، كان هناك غياب كبير للتنظيم وللرؤية المشتركة والبدائل السياسية والاقتصادية. هذا الخلل الكبير هو ما جعل الامر يؤول لطبقة سياسية ونقابية لم تكن ابدا جاهزة للثورة ولا للحكم ومتصارعة فيما بينها، ولكل معسكر مآربه وهواجسه الخاصة. ان غياب التنظيم والرؤية لم يكن صدفة او سذاجة، اننا نلمس هنا كيف يطبع العصر شكل الاحتجاجات والاحداث: كانت هناك ثلاثة أسباب حاسمة. ضُمور السرديات الكبرى بعد انتصار الليبرالية وهو ما جعل فكرة الثورة تتراجع امام دعوات الإصلاح والقبول بالعولمة كأمر لا مفر منه. ثانيا، وهذا نتيجة للسبب الأول، غياب التنظير الثوري الذي يكون مُلهِما وموحِّدا للمتمردين: كانت الثورة الإنجليزية تستمد افكارها في شان حرية التعبير من "ميلتون"، وتستمد فكرة العقد الاجتماعي من "هوبس"، وتستمد فكرة الحقوق الطبيعية من "جون لوك".

واستلهمت الثورة الامريكية افكارها من "توماس بين"، والفرنسية من "روسو" و"مونتسكيو"، والبولشيفية من "ماركس" ولينين"، والإيرانية من "علي شريعتي". اما الربيع العربي فلم يكن هناك مفكر صاحب رؤية قد رافق المتمردين وهم يخوضون صراعاتهم مع الأنظمة القاءمة. وهناك سبب ثالث يعود لتغيّر حاسم في شكل المعرفة ووسائط اكتسابها: ساهمت الثورة المعلوماتية في منح الفكرة والمعلومة للجميع وهو ما افقد "القيادة" والتنظيم" سلطتهما، وجعل شكلا اخر من الانتظام ممكنا وهو الانتظام الشبكي، فاصبحنا إزاء "ذرات" من الافراد المجهولين الذين يلتقون عبر الانترنات، وهو ما تفطنت له أجهزة الحكم لاحقا فقامت بعملية الاختراق والتأثير والتوجيه. لقد استعملت الثورات المضادة نفس السلاح الذي استعملته الثورات.

يُلخّص المفكر الإيراني "اصف بيات" في "ثورة بلا ثوار" كل هذا في قوله "كانت الثورات لا تريد ان تحكم وانما تريد ان لا تُحكَمُ"، لذلك عندما انهارت الداخلية وغاب الامن من الشوارع، وهرب راس السلطة، وعوض ان يقع اقتحام مراكز السيادة وممارسة السلطة ووضع اليد على الاعلام، اكتفى أبناء الجهات المهمشة بالقدوم الي القصبة والقيام باعتصام القصبة الأولى والثانية. اكتفوا ب"مطالبة" السلطة القائمة بتغيير وجوهها، ثم طالبوا بدستور جديد. كانوا يطالبون النظام القائم بأحداث إصلاحات عوض الاستيلاء على السلطة وإقامة نظام اجتماعي جديد.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات