الحماية/الاحتلال ومحنة "التابع"

Photo

طرح اعتراف الرئيس الاخير بان ما حدث كان حماية ولم يكن احتلالا مشكلا على غاية من الخطورة، اضافة الي كونه شائكا ومتشعبا، وقد ساند الرئيس البعض ممن يتعاطون التاريخ وكذلك مِقدارا صالحا من انصاف المتعلمين الذين يساندون او يعارضون طبقا لاصطفافات بافلوفية. من اسوء ما يحدث لنا منذ مدة هو اننا، وفي خضم صراعاتنا، قد نعثر في قضية مهمة وحقيقية نستفيد منها لو عالجناها بعقل وروية، ولكن سرعان ما يغطيها غبار المُناكفات السياسوية وتنجاوزها دون ان نفكر فيها بشكل جذري ونستفيد منها على مستوى الفكر.سنحاول معالجة الامر على صعيد الفكر فحسب.

1) مدرسة التاريخ من الاسفل

الذين قالوا بانها "حماية" وليست "احتلال"، وهم القانونيون الشكلانيون والمؤرخون المبتدئون، برروا ذلك بكون الوثيقة اسمها "الحماية". وبالفعل من وجهة نظر قانونية شكلانية وتاريخية "رسمية" لا نجد وثيقة "احتلال" وانما وثيقة "حماية". ان الكولونيالية قد فرضت لغة علمية وتاريخية وقانونية وفلسفية تجعل "التابع" لا يستطيع ان يتكلم وان يكون مسموعا الا متى استعملها، ومتى استعملها يتم احتواءه، لانه سيتكلم بلسانها ويعبر عن وجهة نظرها، فيكون، في النهاية، بلا لسان. اننا في قلب المعمعمة الفكرية التي عالجتها مدرسة التاريخ من الاسفل معتمدة على غرامشي وميشال فوكو وديلوز وادوارد سعيد، وامام مفاهيم "التابع" و"الابستيمية" و"الارشيف" و"التمثيل" و"الخطاب".

ا-"التابع" هو مفهوم كان قد ابتدعه غرامشي في "دفاتر السجن" بديلا عن مفهوم الطبقة الماركسي، ويقصد به الفئات المُهيمن عليها والمنسية من التأريخ الرسمي، وهي لا تملك ارشيفا خاصا بها وانما يقع تمثيلها وكتابة تاريخها من طرف القوة الكولونيالية. هذا الوضع خلق هيمنة اكاديمية تمنع التابع من التأريخ لنفسه بمعزل عن المفردات والوثائق والقوانين الكولونيالية. لا يستطيع التابع ان يؤرخ لنفسه الا اعتمادا عن الارشيف الكولونيالي، وباستعمال لغة ومفردات كولونيالية.

ب-"الارشيف" يحدد فوكو معنى الارشيف في "اركيولوجيا المعرفة" (غاليمار 1969 ص 166-173) "انه نظام تشكيل المنطوق، اننا لا تستطيع ان نقف خارج الارشيف لنصفه، لاننا لا نستطيع ان نتكلم من خارجه، لانه هو من يعطي لخطابنا مفرداته ومعناه". الارشيف إذا اساس الخطاب الذي يعرفه فوكو على انه سلطة وهيمنة. عندما يقول المؤرخ او السياسي التابع "الوثيقة اسمها حماية"انما ينطلق من "الارشيف" ويقع في قبضة "الخطاب". الاخطر من هذا هو عندما يكتشف التابع انه لا يمكن ان يُعترفَ به او لا يمكن ان ينجح او يُفهم او لا يمكن ان يُدرَجَ ضمن "الثقافة العالمة" الا متى تكلم بمفردات الارشيف. انه الاحتواء الكولونياليى الذي دعانا دريدا وادوارد سعيد وفرانز فانون الي القيام ب"عصيان معرفي وابستمولوجي" ضده.

"2) الحماية" ومشكل التمثيل

نقصد بالتمثيل الكلام نيابة عن اخر غائب وضعيف، فاقد لآليات الكلام عن نفسه، كما تعني تصوّر الاخر انطلاقا من الذات. انه "صورة" للآخر قِوامها هواجس الذات المُتمثِّلة ورغباتها ومصالحها. نجد هذا كله في مفردة "الحماية": انها نِتاج مركزية ثقافية كما انها تُعلِن عن برنامج كامل: انها نِتاج لتمركز حول الذات التي تعتبر نفسها نموذجا ومعيارا للتحضر، وتعتبر "الاخر" متخلفا وغير متحضر. كما انها ترجمة لنظرة ايديولوجيا التقدم تقوم على فكرة "الحالات الثلاث" عن اوغست كونت: اللاهوتية والميتافيزيقية والوضعية.

الاخر الذي لايزال لاهوتيا وميتافيزيقيا هو في "حالة الطفولة" لذلك يجب الاخذ بيده و"حمايته"، وتعليمة وتثقيفه وتحضيره الي المرحلة الوضعية والعقلانية. ان لفظ الحماية اذن برنامج كامل من الهيمنة وتشريع الهيمنة، بل من يعترف بالحماية انما يعترف ب"رسالة الرجل الابيض" التحضيرية، وهكذا تصبح المطالبة بالاعتذار عقوقا عليه ان يُكفّر عنه بواجب العرفان.

أ :أ .سعيد والقراءة "الدنيوية":

بعكس المفاهيم والقوانين والوثائق التي فرضتها الاكاديميات الكولونيالية على انها لغة كونية شفافة وموضوعية ومحايدة يقترح أ.سعيد مفهوم القراءة الدنيوية. وهي تعني ان ننظر الي هذه اللغة الكونية على انها منغرسة في صراع مع الاخر. بعكس ما كرسته مابعد البنيوية من اعتبار النص، سواء كان قانونيا ام ادبيا ام فلسفيا قائما بذاته ومنقطعا عن الواقع الذي انتجه، فان ادوارد سعيد يعتبرها دَوال دنيوية لها معانيها ودلالاتها خارج النص. على التابع اذن ان يمارس عصيانا ابستيميا يتمثل في عدم استعمال هذه اللغة التي تدعي الكونية، واستعمال مفرداته هو التي تعكس تاريخه الخاص، واهدافه الخاصة. فمثلما كانت اللغة الكونية التاريخية او القانونية هي استراتيجيا هيمنة، فان استعمال التابع للغته هو هي استراتيجا تحرر.

ب: التجربة الالمانية:

كان العقل الالماني اول من تفطن الي فخ التسميات والي الجيوش الكامنة داخل اللغة والمعارف والقوانين التي تلبس قناع الكونية. عندما غزى نابليون المانيا ذهبت معه الثقافة الفرنسية والانوار التي انبهر بها فيخته وهيجل (الذي سرعان ما عاد لرشده)، ولكن هردر كان ابعد منهم غورا وأسرع انتباها. يقول في "فلسفة اخرى للتاريخ" ما يلي: "ان الفرنسيين في نظرتهم للتاريخ يقومون بخطيئة كبرى، انهم يريدون الارتقاء بنظرة تخصهم هم الي مرتبة القانون الازلي. ان ما هو خفي في ما يسمونه كوني هو روح الفتح ورغبتهم في اجتياح المحيطات وفي الهيمنة على الشعوب. ان ما يفعلونه الان هو الاحتواء القسري الذي بدأته الانوار، والحال انه لا نبي خارج بلاده، ولا وجود لمثال (كوني) ثابت وصالح للجميع ومعزول عن ظروف نشأته. لنترك الناس يعيشون وفق الخير والشر كما تفهمه الامة الالمانية، كما هما موجودان في الادب واللغة الالمانية. هذا يكفينا"

عوض مفهوم الكوني ابدع الالمان مفهوم Volksgeist : وبه قاوم الفلاسفة ورجال القانون والادباء فكرة العقل الكوني الفرنسية. تحت اسم ال Kultur لم يسعى الالمان الي مقاومة الجهل فقط وانما ايضا الدفاع عن الروح الخاص بالشعب الالماني ( للتعمق فيما يخص رفض لالمان للكوني انظر A. Finkielkraut la défaite de la pensée. Gallimard 1978 pp 15- 34)

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات