بِدعة قيس سعيد السياسية

Photo

يُسجل الفكر السياسي المعاصر، ومنذ منتصف القرن العشرين، "نهاية الديمقراطية التمثيلية" ويحاول ان يجد لها بدائلا تُحقق ارادة الافراد وتضمن مصالحهم، بعد ان هيمنت الدوائر المالية على المجال السياسي، سواء بشراء رؤساء الاحزاب ورؤساء الكتل النيابية، او بسيطرتها على الاعلام وتوجيه الراي العام.

وما يصح على المكاتب التنفيذية للاحزاب وممثلي الشعب، يصح على القيادات النقابية حيث يقع ترويض العمال وتسويف مطالبهم اعتمادا على تواطؤ القيادات النقابية وشرائها بالامتيازات والمواقع. انها عملية تحكّم وسيطرة اعتمادا على سلب ارادة الافراد ومَركَزتها في يد اقلية يقع اغراءها وإفسادها من طرف الشركات ورؤساء الاموال واصحاب المصالح.وعوض ان نُعول على "اخلاق" هذا وذاك، و"نقائه النضالي"، علينا ان نفكر في تغيير الآليات.

لأننا نعلم ان البعض لا يقبل من الافكار الا تلك التي تاتيه من الفرنسيين او الانقليز، فاننا نُنبه الي اننا نعتمد في هذا المقال على Dominique Shnapper "la democratie providentielle" Gallimard 2002 chap 5

جمهورية اللاهوت

يُخطئ من يعتقد بان الحداثة، سواء كانت فلسفية او سياسية، قد قطعت مع اللاهوت: لقد اتخذت منه مثالا واتبعته حذو النعل بالنعل. لم يكن هوبس، احد ابرز مؤسسي الفكر السياسي الحديث، يعبث بالكلمات حين وصف الجمهورية قائلا "هذا التنين العظيم، الاله الفاني". اية علاقة للجمهورية باللاهوت؟

-تعالي السلطة على الفرد: نشأت الجمهورية كبديل "للنظام القديم" الذي يقوم على سلطة الملك بوصفه نائبا عن الله. تفيد عبارة "مات الملك، عاش الملك" ان للملك جسدين: جسد طبيعي فان بفناء الفرد، وجسد ازلي ازلية السلطة الملكية. هذه الفكرة تجسيد للتصور المسيحي للاله: فناء المسيح الابن هو ازلية الاله-الروح القدس.ورثت الجمهورية هذا التصور للتعالي وطبقته عن الرئيس وعن النواب: ماذا تعني الحصانة غيرالقول بان هؤلاء لا يُساءلون عن افعالهم، تماما مثل الاله، في حين انهم افراد مثلنا؟

النموذج الكنسي:

خلال صراع دعاة الثورة في فرنسا مع النظام القديم، وهو صراع استمر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، سعى الجمهوريون الي تعويض التعالي الكنسي بتعالي جمهوري: مقابل كل عيد كنسي وضعوا عيدا جمهوريا، "راس السنة الادارية" عوض "ميلاد المسيح"،غرة ماي واحياء ذكرى الانتصار في الحرب العالمية الاولى عوض "الباك" و"بونتكوت"، 14 جويلية عوض عيد انتقال العذراء.

القائمة طويلة، وكل الاعياد في الجمهورية الفرنسية هي اعياد دينية: لقد ارادوا تعويض الزمان الكنسي فأنشؤوا زمانا هو نسخة مقلوبة من الزمان الكنسي.في الحقيقة، الا تذكرنا العودة للدستور في كل خلاف بالعودة للكتاب المقدس؟ الم يحتفظ خبراء الدستور الي الان باللفظ القديم "فقهاء '' (الدستور)؟ لقد كان الجمهوريون، وحتى القرن التاسع عشر، يكتبون كتبا يُطلقون عليها "تعاليم"، ومنهم جول فيري، "كُتيِّب في التعاليم الانتخابية موجه الي اقليم البروتون" (1863) .

اما الانتخاب فقط وقع تصوره وفق النموذج الكنسي بشكل تام: يُجرى يوم الاحد، يوم الصلاة، لا يشارك فيه غير الرجال الراشدون (النساء والاطفال كانوا ممنوعين)، كان يقع داخل فضاءات الكنيسة، ثم وقع تحويله الي كنيسة الجمهورية (المدرسة)، يقع داخل الخلوة تماما مثل خلوة الكنسية حيث يعترف المؤمن بخطاياه للرب. في التصور الفرنسي للجمهورية، يقع تأليه وتقديس الفعل السياسي والجسم السياسي، ويقع تصور الانتخاب على انه تعميد: خروج الفرد من حالة الطبيعة الي درجة "المواطن" الذي يعبر عن الارادة العامة، تماما كارتفاع الفرد من حالة الوثنية الي مرتبة المؤمن.

مقارنة بسيطة مع عملية الانتخاب في فرنسا مع ما يحصل في بريطانيا تبين لنا لاهوتية الجمهورية الفرنسية: تدور العملية الانتخابية في بريطانيا بدون هالة سحرية ومن غير طقوس مُوحدة: يقع اختيار ما تفق من الايام، داخل اي فضاء سواء كان كنيسة او مستشفى او مدرسة، وماتوفر من الادوات. ليس هناك اية طقوس سحرية توحي بقداسة العملية.

لماذا هذا الاختلاف؟ لان النموذج الفرنسي هو نموذج ديني مقلوب وديكتاتورية مُقنّعة. (الخلاف يعود الي الخلاف بين روسو ولوك: يرى روسو ان الصالح العام ليس هو صالح الافراد بينما يرى لوك ان صالح الافراد هو الصالح العام، حكاية طويلة). كل من زار فرنسا يزور "البانتيون" وهو مقبرة العظماء: نموذج لبيت الالهة في اثينا.

النُّواب: قساوسة جدد

تأسست فلسفة الديمقراطية التمثيلية على حجتين: لا نستطيع ان نمارس الديمقراطية المباشرة في مجتمعات تُعَدُّ بالملايين، والثانية، من الافضل ان نختار بواسطة الانتخابات من هم "افضل" و"اقدر" على حكم البلاد. في الواقع، ليست هاتان الحجتان هما السبب الوحيد الذي من اجله وقع استبعاد الديمقراطية المباشرة: هناك فكر لا هوتي ويعقوبي وراء ذلك.

مثلما ان المقدس (الاله) مجرد و يتعالى عن الافراد ويعرف مصلحة عباده اكثر منهم، وقع تصورالجسم السياسي مجردا ومنفصلا عن الجسم الاجتماعي، ويعرف مصلحة "الامة" افضل من الافراد، ومثلما يُسلم الافراد امرهم للملك او الاله يجب ان يسلم "الناخبون" امرهم للنائب او الرئيس، ومثلما ان الملك او الاله لا يُساءل، كذلك ممثلو الشعب، ومثلما ان الله معصوم من الخطأ، يقول روسو "ان الارادة العامة لا تحيد ابدا"، ومثلما ان القساوسة يعبرون عن ارادة الله، يقول روسو "ان الالهة تتكلم على لسان المشرعين".

هناك لاهوت سياسي حقيقي: ينفصل النواب عن وجودهم الفردي وما يقتضيه، ويمارسون السلطة من اعلى في اتجاه الاسفل. اما "ماهي مصلحة الامة؟" والا تكون هي مصلحة من يتحكم في الامة وفي النواب؟ فذلك امر عشناه ولاحظناه باعيننا. " مصلحة تونس" تبين انها مصلحة الجهات والفئات التي تتحكم في تونس. اول قرار اتخذته الاغلبيه في 2014(النداء) هو رفض التمييز الايجابي بين الجهات الذي اقره الدستور،واخطر قرار اتخذه مجلس النواب هو قانون المصالحة مع من سرقوا الشعب في 7 ألاف مليار.

منذ 1920 كتب "كاريه دو مالبيرغ" " النظرية العامة للدولة"، يقول "هناك انفصال بين السيادة القومية والسيادة الشعبية، ويجب ان نستبدل التمثيل الذي يميز الاولى بالديمقراطية التي تميز الثانية". لقد تاسس مفهوم الدولة الفرنسي على قطيعة تامة بين الدولة والمجتمع المدني، وهو ما انتج قطيعة بين "المُمَثلين" والناخبين، ولقد وقعت مهاجمة هذا النموذج من طرف العديد من الفلاسفة في سبيل استعادة الوحدة العميقة بين الشعب وحكامه.

ازدادت ازمة الديمقراطية التمثيلية مع ظهور العولمة والنظام النيو-ليبرالي، حيث سيطر الاقتصادي على السياسي والبراغماتي على الاخلاقي، وأصبح ابداع شكل جديد من التنظيم السياسي اكثر الحاحا لضمان العدالة الاجتماعية . لا احد يتصور انه في حملات انتخابية لا يفوز فيها الا من هو قادر على انفاق المال على الفقراء لشراء اصواتهم او انفاقها على وسائل الاعلام وشراء الصحافيين، ان يكون "صاحب الماكينة" ناطقا باسم ناخبيه الفقراء الذين يستغلهم في معامله ومؤسساته.

لقد اصبحت المجالس النيابية وكرا لتشريع القوانين الغير شعبية و مخبئا للحصانة من المحاسبة. وعوض ان ننتظر الفرنسيون حتى يبدعون حلا لهذه الازمة ثم نأخذه عليهم بعد مائة سنة علينا ان ننتج شيئا ايجابيا تأخذه علينا الانسانية التي خرجنا من افقها طيلة ما يزيد عن عشرة قرون.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات