يمكن اعتماد كتاب (الحي يروّح) لصاحبه الفنان (نور شيبة) وما أثاره من لغط أنموذجا على أزمة حادّة في ثقافتنا (التقدمية). لهذه الأزمة أوجه متعددة أخطرها إطلاقا الوجه الأخلاقي. فموجة الرفض والتهكم والاستنكار التي أقيمت للكتاب وصاحبه على صفحات التواصل الاجتماعي استعملت فيها أبشع أدوات الإهانة والتحقير والتنمر، وحري بأي مثقف أو فنان أن يناضل ضد الرفض والإقصاء وأن يعفّ عن استخدام هذه الأدوات لأن الثقافة إطلاقا لا يمكن أن تكون الا نصيرا للرفعة والسمو والجمال.
أما الوجه الثاني ففكري يعكس إلى حد ما أسلوبا مشوها في مواجهة الواقع بكل إكراهاته.. أسلوبا يفتقر إلى الموضوعية والحياد والتنسيب. فموجة الرفض التي رافقت ظهور الكتاب تتذرع بالدفاع عن الجودة (كل هذا قبل قراءة العمل) واعتبرت الكتاب خطرا على نقاوة (أدب السجون) وقداسته المزعومة، والحال أن الأمر أبسط من ذلك بكثير فالكتاب مجموعة غنائية لا غير ويمكنك بكل بساطة أن تتجاهله عندما تراه معروضا في المكتبات، لا سيما أنك غير متأكد البتة من أن كل ماهو معروض بالفصحى وتحت مسميات ابداعية مختلفة هو جيد بالضرورة. ثم ما الجودة؟ ان هي الا وجهة نظر خاصة وخاصة جدا. هكذا إذن ضاعت الحقيقة بين أرجل المتدافعين بتحريض مباشر ومتعمد من (حراس المعبد) !
أما أخطر وجوه الأزمة ففي بعدها السياسي. لقد انتهى عهد كانت فيه المنشورات والمصنفات الفنية تخضع بالضرورة إلى رقابة الدولة، وهو ما ناضلت من أجله النخب طويلا، وها هي من حيث لا تدرك بحملة الرفض والإقصاء تستدعي ضمنيا الرقيب الغائب وتتمنى حضوره. بما يعكس بعض القصور في تمثل تيمة الحرية وما تشترطه من ضرورة قبول الآخر والتعايش في ظل الاختلاف.
لا أريد هنا أن أتوقف عند الجانب الذاتي في المسألة، فالساحة الثقافية كما هو مجتمعنا تعمل وفق مبدأ (إذا حبوك ارتاح) وفي قنواتنا التلفزيونية الأشدّ تأثيرا لصوص ومجرمون وسراق مال عام جرائمهم في حق هذا البلد أخطر من استهلاك مادة مخدرة ومع ذلك يبرطعون بكل حرية ويفعلون ما يشاؤون وسط تهليل المعجبين والمريدين. وإذا كان لزاما علينا أن نتصدى للتفاهة فمن باب أولى أن نقاوم معا هذه الحاضنات التي تدخل كل البيوت وتسلب الناس أمخاخهم بالطنين الذي تحدثه قمامتها: منوعات ومسلسلات فهي من أجل الربح والهيمنة على السوق تعمل بلا هوادة على تدمير البنية القيمة والتماسك الاجتماعي تحت ذريعة (ذلك هو واقعكم).
هكذا أرى أنها (المعركة الخطأ) في التوقيت الخاطئ، ومما يعزز موقفي قول أحدهم في تفسيره لهذه الضجة بأنها (الثمن الذي ينبغي أن يدفعه نور شيبة لأنه دخل مكانا ليس من حقه ان يدخله). فقد اعتبر المتحدث مكتبة الكتاب وفضاءها الجديد في (ميتيوال فيل) محرابا طاهرا أو ناديا مغلقا لا ينبغي أن يدخله الا من كان مثقفا وفق المعيار النمطي (لحية مهملة ومحفظة جلدية ورائحة نفاذة من الإبطين) ولذلك يستحق نور شيبة الجلد.. ولم يطرح هذا المثقف اليساري التقدمي على نفسه أن المكتبة مشروع تجاري أساسا وأن المعني بالنقد في هذه القراءة هو صاحب المكتبة لا الفنان. خصوصا أن المعركة بين (الأدب والذهب) قديمة قدم الحضارة.
عموما هي زوبعة في فنجان. والكتاب يتضمن كأي عمل من هذا النوع نصوصا جميلة وأخرى ضعيفة كان من الأجدر تجاوزها والنص أي نص لا يحتاج من يفرضه ولا من يقصيه. وحده التاريخ كفيل بفرز الغث من السمين. لكن هذه الضجة تؤكد مع الأسف أن النخبة الآن (فاضية شغل) وليس لديها ما تفعله في سياق اللحظة الراهنة أهم من التصدي لفنان نشر كتابا، بينما نحن نمرّ بمنعرج تاريخي حاسم يكاد البيت فيه أن يقع على رؤوسنا جميعا سواء أكنا ملائكة أم شياطين.