زينة وعزيزة

الأطفال الذين ولدوا قبل الثورة أو بعدها بقليل لم يركبوا في حياتهم حافلات جديدة. منهم من اجتازوا المرحلة الابتدائية كاملة، ووصلوا إلى الباكالوريا والجامعة دون أن تطأ أقدامهم قط عربات نقل مغلفة كراسيها بالبلاستيك، قادمة للتو من المصنع، وأبوابها تغلق بشكل جيد. بل أنقذ هذا الجيل الذي ترعرع في مناخ الحرية بأعجوبة من مشروع ثوري لأول حكومة تشكلت بعد قيام المجلس التأسيسي لاستيراد (التك تك) وجعل تونس الكبرى في مرحلة أولى وكامل البلاد لاحقا مثل الهند وبنغلاديش والقاهرة، أفلا تذكرون؟

كبر هؤلاء الأطفال وهم يرون الحافلات الفرنسية المستعملة يستقبلها ممثلو حكومات التوافق عند حلولها في ميناء حلق الوادي لتقضي شيخوختها في شوارعنا، فترى الذاهب منهم إلى إحدى الضواحي الغربية للعاصمة يركب حافلة (سان جرمان) تنفث دخانا أسود ما كان لها أن تنفث مثله وهي تتجول في شوارع باريس، هذه الحافلات لا تحضر ساعتها ولا تأتيها المنية إلا في شارع محمد الخامس أو مفترق باب سعدون وقت الذروة! فلا يلام من لا يفكر إلا في الإفلات بأسرع ما يمكن من هذا الكابوس والرحيل بأي شكل ممكن إلى هناك، حيث الحياة الحقيقية.

ليس من حقنا إذن أن نحاسب هؤلاء الأطفال على فرحهم العفوي بدخول حافلات جديدة إلى مستودع شركة النقل، ولا أن نعاقبهم على ابتهاجهم بالجلوس لأول مرة ولو للتجربة على كراسي نظيفة، عسى أن يتحملوا مسؤوليتهم كاملة في الحفاظ عليها وصيانتها، فنحن نتكلم من أبراج عاجية تجعلنا كثيرا ما ننسى أن الديمقراطية لا تعني شيئا في غياب الرفاه الاجتماعي، وأن الفقر عدو الحرية، لهذا باع التونسيون أصواتهم مقابل بضعة صناديق من المقرونة وكثير من الوعود الهلامية، ثم صدقوا أن الكابوسان وسجائر الكريستال رمز الطهارة الثورية!

موضوعيا، يمكننا أيضا أن نلتمس لوزارة النقل عذرا وأن نتفهم مبالغتها في إظهار الفرحة بهذه الحافلات الصينية، وأن نعتبر تلك المرأة التي قدمت على وجه السرعة إلى مستودع الشركة ومعها (الكانون) لتبخّر الأوتوبيس من الداخل وترقيه بصدد القيام بواجب وطني! لا ينبغي أن نهزأ من رفع النشيد الرسمي، واعتماد شعار (فلا عاش في تونس من خانها) وسما للتداول بين النشطاء الذين يتقدون حماسا، فهذه الحافلات الجديدة هي أهم إنجاز تحقق في ظل حرب التحرير الوطنية، لا سيما أنها من فئة (زينة وعزيزة)، ووزارة النقل التي كانت في أكثر من مناسبة عرضة للنقد الرئاسي الشديد يصح فيها المثل الشعبي (جيعان وطاح في قصعة).

نهنئ أنفسنا إذن بهذا الإنجاز العظيم الذي حققته الحكومة أخيرا، في انتظار القطار السريع الذي وعدنا به سيادة الرئيس والذي سيربط بنزرت ببن قردان، فوسائل النقل المريحة واللائقة أساس التقدم والرقي، وجل مشاكل المواطن اليوم لها علاقة بالنقل، وشعار (الكرامة الوطنية) الذي يرفعه الثوريون يداس يوميا تحت الأقدام في محطات النقل البري حيث تسود الفوضى، وفي المطارات حيث الإهمال والتهاون والعجز، وفي القطارات التي تغادر العاصمة ليلا ولا يعرف أحد موعد وصولها، ويتكدس راكبوها مثل البهائم في الفراغات الفاصلة بين العربات يدخنون ويلعبون الورق وينامون، تلك القطارات التي لا نظير لها إلا في روايات غابريال غارسيا ماركيز.

هنيئا لنا!

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات