منذ 25 جويلية 2021 ونحن ننتظر بفارغ الصبر أن يتكلم رئيس الحكومة المقال، ويفسر لنا ما حدث ليلتها من وجهة نظره هو، لكنه لم يفعل. وكان قبلها بأيام قليلة ظهر في وسائل الإعلام يترأس اجتماعا مع كوادر وزارة الصحة، ويعلن أمامهم أنه لم يعد يفهم ما يحدث في هذه الوزارة التي يعرفها جيدا، وبهذا الفيديو لمح إلى أن حكومته تتعرض إلى مؤامرة وخرج من المشهد السياسي كما دخل.
خرج هشام المشيشي من أصغر أبواب وزارة الصحة، ولعله أن يكون باب المشرحة، في مستشفى الرابطة أو شارل نيكول، فالرأي العام وجه أصابع الاتهام مباشرة إلى الحكومة وحملها مسؤولية تردي الوضع الصحي بشكل كارثي، بعد أن ارتفع عدد ضحايا كوفيد 19 ووزعت اللقاحات القليلة المتوفرة اعتباطيا بشكل أدى إلى خرق قواعد الحجر الصحي، ومن داخل هذه الهاوية تكلم رئيس الحكومة يومها لآخر مرة -دون أن يسمعه أحد- محاولا بلا جدوى الإقناع بأن فشل حكومته أمر خارج عن السيطرة.
منذ تعيينه على رأس الحكومة والغموض يحيط بشخصه من كل الجوانب، لا يتعلق الأمر بخلو سيرته الذاتية من أي تجربة سياسية، فهذا الأمر كان منسجما مع مقتضيات الحرب على (السيستام)، وعلى (الفتية الذهبيين)، بل لأنه حلّ في القصبة بعد سقوط حكومة ائتلاف علق عليها الجميع آمالا عريضة، لكنها لم تصمد طويلا أمام تحالف المصلحة الشرس بين حركة النهضة وقلب تونس. والسؤال الذي لم يجد له أحد جوابا مقنعا: من هو هذا الربان الذي جيء به ليواجه العاصفة والسفينة على وشك الغرق؟
للإجابة عن هذا السؤال تداول الرأي العام روايتين مختلفتين تنطلقان من انطباع واحد بأن المشيشي رجل ضعيف الشخصية، الرواية الأولى تؤكد أنه من اختيار مديرة الديوان الرئاسي في نطاق توسيع دائرة النفوذ الضئيل الذي منحه دستور 2014 لرئاسة الجمهورية، والدليل على ذلك وجود عدد من الوزراء (من بينهم وزير الصحة) اختارهم الرئيس بنفسه، أما الرواية الثانية فتذهب إلى أنه هو عصفور النهضة النادر الذي سيمكنها من تغيير قواعد اللعبة لصالحها إذا ما كررت معه تجربة (الابن العاق)، والدليل على ذلك مسارعته إلى إعلان تحوير حكومي لإبعاد وزراء الرئيس.
كان كل شيء يشير إلى أن الدولة على وشك التمزق والانهيار، رغم كل ذلك لم يتكلم المشيشي، وظل محتفظا بالغموض الذي رافق شخصه المتواضع منذ البداية، أقفلت أبواب البرلمان أمام النواب المنتخبين، وعزل من منصبه ولم يتكلم، ثم غادر البلاد بشكل آمن عندما كانت الأصوات مرتفعة تطالب بمحاسبته ولم يتكلم، تغير الدستور وأرسيت دعائم النظام الرئاسي والبناء القاعدي ولم يتكلم، صار شاهدا على نهاية الانتقال الديمقراطي وزوال التعددية وموت الأجسام الوسيطة ولم يتكلم، وأصدرت المحكمة حكما يقضي بسجنه أكثر من ثلاثين عاما في ما يعرف بقضية (انستالينغو) ولم يتكلم.
وأخيرا تكلم، وخرج عن صمته في تدوينة غاضبة، وقديما قال سقراط: (تكلم لأراك)، تكلم المشيشي عندما صدر حكم على وزير الداخلية الأسبق علي العريض في قضية تسفير التونسيين إلى بؤر التوتر، ودون الخوض في هذه القضية ومدى استجابتها لشروط المحاكمة العادلة، فليس هذا موضوعنا،
لقد آن لأبي حنيفة أن يمدّ رجليه!