أقام بضعة أنفار يوم 25 جويلية احتفالا في شارع الحبيب بورقيبة رآه البعض منافيا لقواعد الذوق السليم، بينما هو في الحقيقة يتجاوز ذلك بأشواط بعيدة، فقد أهان كل قيم الحداثة والتمدن والرقي. ومرّغ أنف الجمهورية في الأرض يوم عيد ميلادها، لا سيما أن فسح المجال لأيّ كان كي يعلّق على وجه المسرح البلدي صورة عملاقة لرئيس الجمهورية دون أن يمثل جهة رسمية ليس دليلا على سيادة الشعب بل دليل على تفشي الفوضى والعودة القوية إلى عبادة الأصنام.
رفع بعض المحتفلين شعارات تقدّس رئيس الدولة، وركع آخرون ورؤوسهم ملفوفة في العلم، اختلط الصياح والبكاء والعويل بأغاني الأفراح والربوخ تنبعث من مكبّرات صوت كالتي يستخدمها باعة أشرطة الكاسيت في الأسواق الأسبوعية، وتخلّل كل ذلك زعيق نسائي حادّ عن الخونة والعملاء الذين يجتمعون في السفارات، وعن الرئيس الذي قال لأمريكا لا. وطمعا منه في الحصول على ما يثبت بالحجة والدليل أن هذا (الكاراكوز) نظمه طرف مناوئ للمسار بغاية الإساءة إليه، استجوب صاحب صفحة شهيرة -ترتبط كل تحقيقاتها عادة بمصالح الأمن العمومي- المنظمين لكنه لم يظفر بشيء!
هؤلاء الذين تطوعوا لتمثيل (الشعب الصالح) يوم الاحتفال بعيد الجمهورية خليط من فئات اجتماعية شتى، والأمر هنا لا يتعلق بأشخاص فقراء يمكن شراء ذممهم سياسيا كما كانت تفعل الأحزاب، بل إنك من خلال ما صرحوا به لن تستطيع التمييز بسهولة بين الاختلال العقلي والسذاجة الفطرية والانتهازية رغم التظاهر بصدق النوايا، لقد أكد المستجوبون جميعهم أنهم نظموا احتفالهم بكل تلقائية وعفوية، وأنهم لم يتلقوا أموالا بل دفعوا من جيوبهم، فقد أفاد أحدهم أنه قدم من الكاف على متن سيارة أجرة للمشاركة في أي احتفال سيجده أمام المسرح، ولم تكن تربطه ببقية النماذج البشرية التي التقاها هناك غير حبّ الرئيس.
لقد فشلت المحاولة التي قام بها البوزيدي لتخليص النظام من شبهة موالاتهم له وولم يجد دليلا واحد على أن هؤلاء (الزواولة) اشتراهم أحد اللوبيات بالمال القذر للعب هذا الدور! فما على النظام إلا أن يتقبل بكل شجاعة أنهم يمثلونه حقا وألا يشعر بالعار أمام احتفالهم التلقائي هذا، وأن يتحمل مسؤوليته الأخلاقية تجاههم. بعد أن تخلى هو عن عبء إقامة الاحتفالات والحال أن المناسبات الوطنية في كل دول العالم محطات موسمية للتعبئة المعنوية، وتجذير الانتماء!
وإن المتأمل في مسلسل التنازلات التي حدثت في البلاد منذ 14 جانفي 2011 يدرك أن ما انتهينا إليه هو نتيجة منطقية لمسار كامل، فمن يزرع الشوك لا يجني غير الجراح: لقد همشت النخب التي حكمت بعد سقوط نظام بن علي المناسبات الوطنية الكبرى في سياق تنكرها لدولة الاستقلال، فأطفأت مظاهر الاحتفال والبهجة في الشوارع، وجعلت وثائقيات التلفزيون العمومي تنوح وتتحسّر على البايات، وتعتبر حرب بنزرت جريمة في إطار مراجعات فايسبوكية للتاريخ، ومن الطبيعي اليوم أن يصبح الاحتفال بعيد الجمهورية مسرحية هزلية سخيفة لا يعرف مشاهدوها أيسخرون من أبطالها أم يشفقون عليهم؟