سكيزوفرينيا

عندما أصدرت الرئاسة الجزائرية بيانا أعلنت فيه أن الرئيس عبد المجيد تبون منح الكاتب "بوعلام صنصال" عفوا خاصا، أشارت وسائل الإعلام إلى أن هذا العفو جاء استجابة لطلب من الرئيس الألماني، وكانت الرسالة المراد إيصالها أن هذا الإجراء لم يكن باي حال من الأحوال استجابة لضغوط فرنسا.

حدث أمر شبيه بهذا في تونس منذ خمس وعشرين سنة خلت، عندما دخل الصحفي توفيق بن بريك في إضراب جوع وحشي أصبح قضية رأي عام من الحجم الثقيل، وأحرج نظام بن علي بعد أن انتبه العالم بأسره إلى وضع الحريات وحقوق الإنسان في تونس، فتدخل الرئيس الفرنسي جاك شيراك لفائدة بن بريك واستجاب الرئيس زين العابدين بن علي، لم يكن ذلك رضوخا بل مجاملة فالعلاقة بينهما أكثر من ممتازة، أليس شيراك هو صاحب مقولة (المعجزة التونسية)، وفرنسا أليست هي الدولة الوحيدة التي تعهدت بإرسال المزيد من القنابل المسيلة للدموع عشية الرابع عشر من جانفي دفاعا عن بن علي؟

قبل ذلك، في سنة 1994 عندما استضافت تونس قمة منظمة الوحدة الإفريقية، تمكنت أطراف حقوقية من لقاء الزعيم نيلسون مانديلا وإعلامه بأن المنصف المرزوقي في السجن، فتدخل لفائدته واستجاب بن علي تقديرا للثقل الرمزي الذي يمثله في مجال حقوق الإنسان.

وكان الرئيس الحبيب بورقيبة في سنوات الاستقلال الأولى قد ناشد الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم العفو على الوزير السابق محمد فاضل الجمالي وأنقذه من حبل المشنقة اعترافا بما قدمه للحركة الوطنية التونسية، واستقبله في تونس ليقضي فيها بقية حياته معززا مكرما، وكان الجمالي يردد دائما: "أنا نخلة عراقية زرعها بورقيبة في تونس"، يقول ذلك اعتزازا بالمواطنة الشرفية التي منحها إياه المجلس القومي التأسيسي.

الأمثلة عديدة على تبادل الرؤساء والملوك المجاملات السياسية، ليس بالضرورة من منطلق الخوف أو الغطرسة أو منطق الغالب والمغلوب أو التدخل في الشؤون الداخلية أو انتهاك السيادة الوطنية، بل في إطار ما تمليه العلاقات الدولية من تفاعل وما ينبغي من انفتاح الدول بعضها على بعض، إن تجاوب رئيس الدولة مع هذه الجهة أو تلك في تدخل إنساني أو حقوقي أمر عادي معمول به وغير معيب ولا يمثل إعلان حرب.

في مقابل كل هذه النماذج التي ذكرنا أفرج عن سنية الدهماني بسراح مشروط بالتزامن مع مصادقة البرلمان الأوروبي على قرار غير ملزم يطالب السلطات التونسية بذلك، وهو موقف رسمي يخلو من الود، ومن الصعب جدا الاقتناع بأن قبول طلب السراح بسرعة عجيبة لا علاقة له بهذا الإجماع البرلماني الأوروبي على نقد الحالة الحقوقية في تونس وتصعيد اللهجة إزاء النظام. والاستجابة بهذه السرعة للعامل الخارجي تتناقض حتما مع الرسالة شديدة اللهجة التي وجهها الرئيس للسفير الأوروبي وتنسف فكرة السيادة كما يروج لها النظام في خطابه اليومي.

إن فرحتنا بإطلاق سراح سنية الدهماني لا تضاهيها أي فرحة. ونتطلع إلى الإفراج عن آخرين ممن تعاملت معهم السلطة بقسوة لا نظير لها، لكن كم تمنينا أن يكون إخراج العملية على نحو مختلف، كأن يطلق سراحها بعد مظاهرة يوم 22 نوفمبر الضخمة تقديرا من السلطة لشعار (الشعب يريد)، وتجسيدا لمقولة (فهمتكم، وفهمت الجميع)، بوصفها خطوة ضرورية قبل (غلطوني وسيحاسبون).

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات