في الأيام التي تلت الرابع عشر من جانفي العام 2011 صار بهو الإذاعة يكتظ منذ ساعات الصباح الأولى بالمواطنين الذين يرغب كل واحد منهم في أن يُخصص له حيّز من البث المباشر المفتوح بسخاء لثلب النظام السابق والتبرؤ منه. وكان علينا أن نصغي يوميا لعشرات القصص ونقيس مدى انسجامها مع الخط التحريري الجديد، قبل السماح لأصحابها بدخول الأستوديو، وكثير من هذه الحكايات كانت مجرد تصفية حسابات شخصية ولا تعبر إلا عن رغبة هؤلاء في إلحاق الأذى بأولئك تحت شعار كشف شبكات الفساد.
العنف بمختلف أشكاله كان سيد الموقف على أرض الواقع، فكثير من الأحقاد استيقظت من سباتها العميق، ووجدت جمرة العروشية التي ظلت مشتعلة تحت الرماد أكثر من خمسين عاما أخيرا من ينفخ عليها. كان كل شيء منفلتا وانهارت الضوابط، وقد بكى في مكتبي بالإذاعة رجل أوقفه شبان في الطريق العام وأخذوا منه شاحنته في واضحة النهار، واقتحمت مذيعة الأستوديو لتخرج زميلتها وتجلس مكانها دون تكليف من الإدارة! وقُــتل شبان كانوا يحرسون مدخل مدينتهم بالرصاص حين اعترضوا قافلة من سيارات الشرطة قيل في نشرة الأنباء الرئيسية إنها كانت بصدد تهريب ابن شقيق الرئيس.
في تلك الأثناء كانت القنوات الفضائية تتغنى بثورة الياسمين بوصفها مقدمة لربيع عربي آت على مهل، وتمجد الشعب لإقناع العالم بأن التغيير (صنع في تونس). تحدث في هذه القنوات معارضو بن علي من الخارج بنشوة المنتصرين عن الثورات العظيمة في التاريخ، مطمئنين الشعب (الذي لا يعرف الثورات مثلهم) بأن الانفلات أمر طبيعي وثمن زهيد مقابل الحرية، بعد ذلك لم يعد أحد يتذكر طلقات الرصاص مجهولة المصدر، وصيادي الخنازير القادمين من السويد إلى جبال عين دراهم، والمواطنين الذين ماتوا في الطرقات بعد رحيل بن علي، أمام صور اللجان الشعبية التي تحرس الأحياء ليلا، والجنود الذي يتبادلون القبل والورود مع (الثوار)، وانتهى الأمر إلى تكذيب مروية القناصة وإرغام الناس على محوها من ذاكرتهم.
كان الواقع مختلفا عن صورته في المرآة، لم يكن ذلك ليزعج أحدا، فالغاية عدم تخويف الشعوب من الثورات، لذلك ينبغي اعتبار الرئيس الذي نفى نفسه بنفسه أكبر طاغية في التاريخ المعاصر، بدليل الأموال المنهوبة التي يحتفظ بها في خزانة مكتبه إلى جانب قوارير الويسكي، أما شعبه المسكين فنقي السريرة، طيب القلب، متحضر، يحترم الأضواء قبل أن يقطع الطريق، ويقف بانضباط خرافي أمام المخابز لاشتراء الرغيف، يحب أفراده بعضهم بعضا ويحبون الوطن، والدليل على ذلك التاجر الذي يعطي البضاعة مجانا لمن لا يملك مالا.
ما الذي ينقص هذه الأسطورة كي ترسخ في الأذهان وتصبح القصة الرسمية للثورة التونسية؟ لا ينقصها إلا أن يصدقها الناس رغم سذاجتها ورغم كل مظاهر الفوضى التي تملأ حياتهم، ينبغي أن يكفّ الناس عن تصديق الواقع المرّ لاعتناق الكذبة الجميلة، لأنها مظلة مثالية للتسامح والطيبة والغفران ولم يدخر مذيعو تلفزيون الواقع والمنوعات الذين أصبحوا بقدرة قادر يديرون الندوات السياسية المباشرة جهدا في لعق كل ما هو قابل للتلميع بألسنة رطبة مدربة على المديح.
كان ينبغي أيضا أن يعتنق هذه الكذبة الجميلة ويؤمن بها أساتذة الجامعة ومتفقدو التعليم الثانوي المتقاعدون والمواطنون السذج الذين قضوا حياتهم في الصفوف الخلفية للتجمع ولم يظفروا منه إلا بخفي حنين، والعائدون من المنفى للانقضاض على الغنيمة، والمناشدون الذين أنكروا جملة وتفصيلا ما نسب إليهم ومن لفّ لفّهم من الوافدين الجدد على ساحة السياسة الذين كانوا يعرفون أكثر من غيرهم أنها كذبة لأن الكاذب يقول جاك ديريدا "يعرف الحقيقة كما يعرف أنه يكذب".