من 25 أكتوبر 1917 في روسيا الى 17 ديسمبر2010 في تونس : كيف تلاحق الثورةُ الروسيةُ يسار الثورةَ التونسيةَ ذُهانيّا ؟

خربشة من أجل 'بسيكولوجيا إدراكية-سياسية ' لأزمة النخبة اليسارية التونسية

مقدّمة :

لا يتعلّق الأمر هنا ببسيكولوجيا فردية للقائمين على مشروع سياسي بل ببسيكولوجيا نفسية اجتماعية للنخبة التي تعتبر نفسها اليوم ثورية يساريّة بوصفها شريحة اجتماعية في اطار 'فرضية' ( أو خربشة فايسبوكيّة) في علم النفس الاجتماعي السياسي للحالة التونسية. وإن الذّهان السياسي الذي سنعنيه هنا يتعلّق بذهان نفسي جماعي وليس ذهانا فرديا لأيّ كان . وهو 'فرضيّة تحليليّة' قد تساعد على الوقاية السياسية و ليس نظريّة تمّ اختبار صدقيّتها عبر أبحاث ميدانية يمكن الركون اليها للعلاج السياسي للحالة التونسيّة . وإن كان في الأمر بسيكولوجيا فرديّة فإنّني أضع نفسي في مقدّمة المرضى اليساريين بالذّهان السياسي خاصة وأنّه كثيرا ما يسقط المحللون أمراضهم النفسية على غيرهم أثناء عمليّاتهم التحليليّة. وإنّ هدفي هنا هو الاشارة الى ما أعتقده مرضا في العلبة السوداء اليسارية التي تمثّلها 'نفسيتهم الادراكيّة' التي تؤثّر على قدراتهم المعرفية و العملية في نفس الوقت.

'وضع المسألة' :

بين لينين روسيا و'لينين' أو 'ستالين' أو 'تروتسكي' أو ماوتسي تونغ' أو 'أنور خوجة' تونس علاقة ذهنية ما يمكن تلخيصها في نقطة أساسية : الثورة على الجمعية التأسيسية الروسية (يقابلها المجلس التأسيس التونسي ...) في اتجاه مجالس السوفياتات (تقابلها 'مجالس حماية الثورة'... في تونس) ضمن مشروع المرور من ثورة فيفري 1917 البورجوازية (ثورة 17-14 التونسية) الى ثورة أكتوبر1917 الاشتراكية (ثورات اليسار التونسية) عبر إنهاء حالة "إزدواجية السلطة" بين سلطة 'الجمعية التأسيسية 'و 'الحكومة المؤقّتة' من ناحية و سلطة مجالس سوفياتات العمال و الفلاحين والجنود من ناحية ثانية وذلك، تونسيّا، في اتجاه الأشكال المختلفة من "استكمال المسار الثوري" التونسي.

ولكن المشكل هنا أن العلاقة الذهنية ببالثورة الروسية (أو غيرها من الثورات اليسارية الكلاسيكية) لا تعني بالضرورة علاقة عقلانية تاريخية سليمة اذ قد تكون مجرّد محاولة للاسقاط الذهني الناتج عن رغبة ذاتية في سحب واقع على آخر ، وهي عمليّة لا علاقة لها بكل مقومات الفعل التاريخي (مهما صدقت النوايا ) وتصبح بذلك محاولة لتكرار تاريخي -يحاول ظاهريّا أن يجدّد في الآليات ولكنه يحافظ على الذهنية نفسها في الواقع - رغم معرفته (مثلا) أنّ ثورة أكتوبر في روسيا 1917 ليست ثورة ديسمبر/جانفي في تونس 2010 ،و أنّ مجالس السوفياتات ليست مجالس حماية الثورة، وأنّ الحزب البلشفي ليس أي تنظيم يساري تونسي كلاسيكي و لا هو 'قوى تونس الحرّة'' ،و أنّ لينين (...) روسيا ليس 'لينين' (...) تونس و أنّ اللينينية الرّوسية بوصفها "ماركسية عصر الامبريالية و الثورة البروليتارية" ليست 'اللينينية' التونسية بوصفها " ثورية عصر العولمة والثورة القاعديّة" أو '...والثورة الوطنية الديمقراطية' أو '...والثورة الدائمة' أو غيرها ، بحيث لا مقارنة أبدا لا في الموضوع و لا في الذات و لا في السياق التاريخي وإنّما مجرّد "ذهان ثوري" قد لا يمكنه - حتّى إن نجح - سوى إعادة التاريخ ولكن... في شكل مهزلة أو مصيبة أو كليهما معا !

يكمن "الذُّهان الثوري" في ارتباك المدارك النفسية -العقلية 'الثورية' التي تؤدّي الى الانفصال عن الواقع الفعلي الرّجعي أو الاصلاحي (أي غير الثوري الآن كلاسيكيّا ) . وقد يؤدّي هذا الذهان الى درجات من الهلوسة الارتيابية من كل شيء (حتى من القوى الاصلاحية و الثورية الأخرى ضمن حدود الثورة التونسية الواقعية ) بسبب حالات التوهّم الثوري التي ترى ما لا يراه الآخرون في الواقع السياسي. وهو بذلك يعبّر ،بطريقة ما، عن انفصال عن الواقع السياسي رغم ما يبدو ظاهرا من اتّصال معه يمكن حتى أن يكون قد أدّى الى نتائج واقعية نتيجة صدفة سياسية تاريخية جعلتها رداءة الواقع تنجح بوصفها لحظة مفارقة واستثنائية كما هو الحال مع ما حققه قيس سعيّد بالانتخابات الرئاسية.

كما قد يرتبط "الذهان الثوري" بالايمان بمعتقدات وأفكار خاطئة وغير متجانسة يمكن حتى أن تشكل خطاطة 'برنامج ثوري' عادة ما يتميّز بما يسمى 'الترميق' (البريكولاج) بين اشياء لا يفترض أن تتآلف عقليّا-سياسيا كأن تجد مزجا بين شكل سياسي يساري راديكالي وآخر ثقافي ديني محافظ وثالث اقتصادي -اجتماعي ليبيرالي اجتماعي إصلاحي في أحسن الحالات.

أمّا عن 'الهلوسات' النظرية السياسية فيمكن مثلا أن تتمثل في رؤية ما لا يراه الآخرون من 'طاقات ثورية' و من توهّم سماع "أصوات شعبية" واكتشاف "نظريات ثورية" لا ينتبه اليها أحد في الواقع التونسي و تشكل "قوانين تاريخية" خفية يعمل الاخرون على إخفائها وعرقلتها بما يمثّل نظرة ارتيابية / مؤامراتية كلالاسيكية.

وهذه الأعراض الذّهانية السياسية عادة ما ترتبط بمشاكل في اشتغال "الدماغ الجمعي" للمجتمع الذي قد يعاني من مشاكل في سوء توفر مادتي "الدوبامين" و "السيروتونين" الثقافييتين اللتين تعيقان عندها اشتغال الوصلات العصبية الثقافية الاجتماعية عموما و الثقافية السياسية تحديدا بحكم كون " مسألة السلطة السياسية هي المسألة الأساسية في كل ثورة" وبحكم كون الدولة هي بمعنى ما "العمود الفقري" لجسم الدولة الذي يعلوه ويتحكم فيه "الدّماغ السياسي" للنخبة (بما في ذلك اليسارية) في أي مجتمع بشري.

أمّا أسباب هذا المرض السياسي فهي عموما تتمحور حول أمرين : واحد بنيوي 'بيو-سياسي' ويتمثل في حالات اضطراب الجسد السياسي التي تجعل بعض اعضائه - وخاصة الدماغ السياسي- لا تنتج ما يكفي من الموادّ المسؤولة عن تسهيل اشتغال الوصلات العصبية السياسية للجسد الاجتماعي السياسي بحيث يؤدّي ذلك الى فقد العلاقة السليمة بالواقع وظهور الذهان كمرض انفصال عنه وضرب 'لمبدأ الواقع' . ويعود ذلك إمّا الى تشوهات 'بيولوجية' ('خلقيّة اجتماعية' ناتجة عن تخلف الثقافة السياسية التونسية البنيوي ) و/ أو إلى تناول غير صحّي لأدوية (نظريات ثورية كلاسيكية ) تؤدي الى مشاكل دماغية تعيق الفهم/الفعل مثل ما تفعل المضادات الحيوية أو المضادات الفايروسية المنتهية الصلاحية.

والثاني واقعي - تاريخي ( وفيه يتحمل الواقع و المسؤولون عنه سبب المرض بشكل واضح ) ويتمثل في الصدمات النفسية السياسية التي تعرض لها الجسد الاجتماعي السياسي أثناء مرحلة الطفولة السياسية أو المراهقة (زمن بورقيبة وببن علي) مثل حالات الاعتداء/القمع السياسي و الاهمال السياسي بعدم تلبية الحاجيات السياسية و كذلك حالات موت/ قتل بعض الأقارب السياسيين حتى أثناء مرحلة الكهولة (مثل الاغتيالات السياسية بعد 2011 ) وما خلفه ذلك من اضطرابات بسبب سوء ادارة مرحلة الحداد السياسي مما حوّله الى حداد مرضي ( أو حداد باطولوجي)،الخ.

إنّ العلاج المطلوب لهذا الذّهان اليساري التونسي (و هو جزء من الذّهان اليساري العربي و العالمي ) لا يمكن بالتالي أن يكون إلا في اتّجاهين :

- الأوّل هو تناول 'أدوية جديدة' ذات فاعلية حقيقية من خلال تجديد النظريات الثورية بالاستفادة من تطور الفلسفة و العلوم الطبيعية و الانسانية الاجتماعية بعد اعادة تقييم التجارب الثورية و بالتالي تجديد رؤية اليسار لتفسير العالم ولكيفية تغييره في نفس الوقت بكلّ جرأة معرفية وسياسية عصريّة.

-و الثاني -المرتبط بالأوّل- هو اعادة قراءة الواقع و اعادة تنظيم العلاقة به وفق تصوّر جديد لمبدأ العيش فيه دون مصالحة رجعية أو إصلاحية معه وجد أغلبنا أنفسهم يعيشونها موضوعيا بين 1991 و2011 اثر انهيار الاتحاد السوفياتي دوليا و اثر الحرب الكونية على العراق عربيا وسطوة بن علي تونسيّا ، ودون مناطحة ثورجيّة مباشرة وفوريّة له باسم الثورية 'المجالسية' أو 'القاعدية' أو 'الديمقراطية الشعبية' أو غيرها من البرامج التي أرجعتنا اليها الثورة التونسية -ولكن ذهانيّا - دون أي وعي حقيقي بموازين القوى الواقعيّة التي جعلت اليسار يقصى من قبل غيره و يقصي نفسه من كل معادلة سياسية فلا يتحصّن إلى اليوم إلا بالمعادلة النقابية - وهي معادلة إصلاحية لن تتجاوز الوظيفة التعديلية - أو بالمعادلة الشعبويّة - وهي معادلة انتخابوية وقتية مفرغة من عمق الثقافة السياسية اليسارية المعاصرة بعد فشل التجارب اليسارية الكلاسيكيية.

خاتمة نفسية ونظرية :

إنّ من أخطر أعراض الذّهان الثوري التي يجب التحذير منها - والتي تجعله مرضا سياسيا مزمنا لا يمكن البرء منه يؤثّر على الادراك نفسه وبالتالي يتحكّم في المنظور (الباراديغم) - رفض الاعتراف به كمرض واعتبار تشخيصه من قبل الطبيب -البورجوازي الصغير- مؤامرة طبّيّة تدخل ضمن التشخيصات الانتهازية التي تهدف الى المصالحة مع الواقع البورجوازي مصالحة رجعية أو في أحسن الحالات إصلاحيّة بحيث تشتغل عند اليسار هنا ميكانيزمات الدفاع الذاتي الايديولوجية مرضيّا للتمسك بالوهم الثوري الذهاني عوض الشروع في البحث عن بداية العلاج الثوري 'الواقعي و العقلاني' اذا اعتمدنا اللغة الهيغليّة.

وإنّ أكبر دليل على هذا هو أن لينين نفسه لم يلتزم بما كانت تقوله الماركسية الكلاسيكية في الثورة الروسية فرفض فكرة كون الثورة يجب أن تكون في البلدان الأكثر تطوّرا في قواها الانتاجية بتعلّة ظهور الامبريالية العالمية -في حين أن الرأسمالية الحديثة كانت دائما عالمية - وبرّر ذلك بقانون التطور اللامتكافئ -وهو قانون ينطبق على كل المراحل الانسانية و ليست له أية خصوصية امبريالية- وبتكتيك 'الحلقة الأضعف' في 'السلسلة الامبريالية' - وهو تكتيك عسكري بالأساس ولا علاقة له بما يسمى قوانين 'المادية التاريخية' - وبالغ في تثمين دور الفلاحين -الذي لم يقم به ماركس سوى في خصوص الثورة الديمقراطية - و عرّف 'الوضع الثوري' بطريقة سياسية -لا علاقة مباشرة لها بتصور ماركس عن 'عصر الثورة الاجتماعية' الذي يدشنه التناقض بين قوى و علاقات الانتاج المادية- و دعا الى امكانية نجاح الثورة في بلد واحد -عكس المقارببة الماركسية الكلاسيكية- واضطر لتأكيد ذلك على عقد معاهدة بريست-ليوفسك مع الامبريالية الألمانية 'خائنا' بذلك البروليتاريا الألمانية -رغم خسارته لمناطق واسعة من الأراضي السوفياتية - . وإن لينين نفسه بالتالي كان بمعنى ما رائدا في 'الانتهازية، ولكن ... في 'الانتهازية الثورية'!

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات