قيس سعيّد و مشروع ' الدّيمقراطيّة القاعديّة' في تونس : القاعدة التي قد تغرق الهرم الديمقراطي !

مقدّمة :

كنت في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية سنة 2019 قد صوتّ تصويتا عقابيا ضد نبيل القروي ومفيدا - ولكن نقديّا - لقيس سعيّد ولست نادما على ذلك .وكنت ولا أزال إلى اليوم أعتقد أنّ حركة 25 جويلية 2021 كانت ضرورية ضدّ 'الفساد الديمقراطي' حتى بعد اصدار الأمر الرئاسي يوم 22 سبتمبر 2021، ولكنني لم أعط ولن أعطي شيكا على بياض لا لقيس سعيّد و لا لغيره .وقد نشرت بعض النصوص السابقة التي توجهت بها الى قيس سعيد وأنصاره ناصحا وناقدا في الآن نفسه، وأعتقد أنه عندما لا يتبنى الانسان كل مواقف تيار سياسي ما فمن حقّه بل من واجبه ، حتى لو تحالف معه اصلا وهو ليس حالي ، أن يحدّد نقاط الالتقاء و الاختلاف فينقد الثانية ويطالب بتطبيق الأولى وفق رؤيته هو، ويحافظ على استقلاله السياسي والتنظيمي ، ويقوم بالدعاية لوجهة نظره وممارستها بحرّيّة ومسؤولية وفق مصلحة شعبه كما يراها . واليوم ، بعد اعادة القراءة السريعة لبعض التصريحات القديمة المعروفة لقيس سعيّد (في جريدتي 'الشارع المغاربي' و' الشعب' وغيرهما) وبعد مشاهدة أشرطة فيديو نشرت مؤخّرا من قبل صفحة " لنفكر ديمقراطيتنا (1)" أثثها خاصّة كل من سنية الشربطي و قيس القروي و عبد السلام حمدي وساهم فيها غيرهم ،رأيت ميلا الى ما يشبه ' الخليط الديمقراطي' الذي بسبب اعتماده على نوع من الترميق (البريكولاج) الديمقراطي قد يؤدّي لو تواصل الى التحول الى كوكتيل مولوتوف خطير يسيء الى الديمقراطية وهو يعتقد إصلاحها. وسألخّص ملاحظاتي الأولى في النقاط التالية التي أعتبرها أساسية الآن في انتظار مزيد الإطّلاع و التفكير لاحقا:

1-الإنتخاب ...الوجوبي :

وردت هذه الفكرة في مداخلات الندوة التي نشرتها الصفحة المذكورة أعلاه بالإشتراك مع جمعية "جيل ضدّ التهميش" على لسان البعض وهي فكرة خطيرة على الديمقراطية وتحوي تناقضا داخليّا عند أصحابها أيضا.

ان فكرة الانتخاب الوجوبي تعني عدم اعتبار الانتخاب حقّا، بل تحويله الى واجب .وهذا يعني ،مبدئيّا ،أن من لا يقوم بواجبه يمكن أن يعاقب بمقتضى القانون الانتخابي. وهذه الفكرة خطيرة جدّا على الديمقراطية لأنّها تمنع الناس من حقهم في مقاطعة الانتخابات لأي سبب يريدونه بوصفهم أحرارا في الانتخاب من عدمه وبقطع النظر عن أسباب ذلك.

وأكثر من ذلك، هي فكرة تمنع خاصّة الحق في المقاطعة النشيطة للانتخابات التي لا تكتفي بالمقاطعة السلبية بعدم التصويت، بل تنشط لإقناع الناس حتى لا يشاركوا فيه لأسباب سياسية تبقى من حق مقاطعي الانتخابات في النظام الديمقراطي. وان الحديث عن 'التصويت الوجوبي' يصبح هنا نوعا من 'الاستبداد الديمقراطي' الذي لم يجرأ حتى أنصار أنظمة الحزب الواحد على تقنينه في نظمهم الانتخابية واكتفوا بممارسته العملية من خلال الضغط /التخويف للمواطنين العاديين و العقاب للمواطنين المسيسين . ويعتبر التنصيص على فكرة التصويت الوجوبي تراجعا عن تعريف الانتخاب بوصفه حقا وتحويله الى واجب على عكس ما هو متعارف عليه في منظومة حقوق الانسان، ويتحول بالتالي الى باب لممارسة التسلط ضد غير المسيسين الذين لا تعنيهم السياسة أصلا (بما فيها الانتخاب) وضد المسيسين المقاطعين سواء مقاطعة سلبية أو ايجابية. وهذا الباب هو واحد من أبواب التسلّط باسم المسؤولية المواطنية، ولكنه ضدّ الحرّية لأن الانتخاب حق...ومن حق الناس ألا يمارسوا بعض حقوقهم من باب الحرّيّة.

والغريب أن المتدخّلين في الندوة أعلاه حول 'الديمقراطية القاعدية' أعطوا للمواطن 'المجبر على التصويت' حق تقديم ورقة بيضاء أو ورقة ملغاة و ناقشوا فكرة ضرورة تحديد نسبة مائوية من تلك الأوراق (البيضاء و الملغاة) اذا تم الوصول اليها تلغى الانتخابات وتعاد (30/100 كان المقترح السائد) في حين انهم رفضوا المقاطعة.

وهذا تناقض داخلي غريب لسبب بسيط : هم يجبرون الناس على التصويت غصبا عنهم فيدفعونهم الى تقديم أوراق بيضاء أو ملغاة ويعتبرون ذلك هو الديمقراطية في حين كان من الممكن الحفاظ على حرية الناس والقول ،مثلا، أنه اذا جمعنا عدد المقاطعين مع عدد الأوراق البيضاء و الملغاة ووجدنا 30/100 نلغي الانتخابات، وهذا نفسه يناقش لأنه لا ضمانة ألا تقع المسألة في كل الدوائر الانتخابية ولا ضمانة في ألا تتكرر حتى عند الاعادة، و لا نعرف ان كان سيقع تطبيق ذلك حتى في الانتخابات الرئاسية أم لا لأن ماورد هنا كان حول الانتخابات التشريعية فحسب.

2-الترشّح ...الفردي :

يؤكّد قيس سعيّد وأنصاره على وجوب اعتماد مبدأ الترشح الفردي في كل دائرة انتخابية صغيرة (العمادة) لأنه لن تكون هنالك دوائر كبرى (كالولايات حاليا) تترشح فيها قائمات كما كان معمولا به. وليس المشكل في التصويت على الأفراد في دوائر انتخابية ضيقة فهذا يوجد في عديد الديمقراطيات ويمكن نقاش جدواه في تونس الآن أو مستقبلا (رغم أن بعض الدول التي تمارس ما يشبهه تسيطر فيها الأحزاب الكبرى التي تحصل على المراتب الأولى باستمرار على عكس نظام القائمات خاصة لو طبق مبدأ التمثيل النسبي بطريقة أو أخرى) انما المشكل في ازدواج الخطاب لأن أصحاب المشروع يتحدثون عن الانتخاب حسب" القائمات المفتوحة" في الدوائر الانتخابية الخاصة بالمهاجرين في حين أنه كان من الممكن ايضا تحديد دوائر انتخابية صغيرة بالمهجر وسحب مبدأ التصويت على الأفراد عليها كما هو الحال في الدائرة الترابية داخل الوطن (العمادة) وما على الدولة (بعد استشارة سفاراتها وقنصلياتها ) سوى أن تفعل ذلك أو أن تختار التصويت عن بعد (التصويت بالمراسلة و التصويت الالكتروني) للمهاجرين في عماداتهم الأصلية التونسية حسب عناوين بطاقة تعريفهم الوطنية مثلا ( ولكن هذا سيحرمهم من حق الترشح كما هو معمول به في بعض الدول أيضا).

ان المهم هنا هو مبدأ توحيد نظام الاقتراع لكل المواطنين .أما ازدواج النظامين (التصويت على الأفراد في تونس و على القائمات المفتوحة في المهجر) فهو من مزالق الارتجال الديمقراطي الذي يؤدّي الى انعدام المساواة في ممارسة حق اساسي من خلال نظامين للتصويت يختلفان عن بعضهما كثيرا ويعطى بذلك المهاجرون هامش حرية أكبر من المقيمين في تونس في اختيار نوّابهم لأنّ تحديد الدّوائر الانتخابية يختلف هناك وهنا. وتتعمّق مشكلة انعدام المساواة المعادية لأبسط مبادئ الديمقراطية عندما نرى مسألة الدوائر الانتخابية في تونس.

3- الدّائرة الانتخابية...الترابية :

يحتوي التصور الديمقراطي القاعدي للرئيس قيس سعيّد وأنصاره على نوعين من الانتخابات هما الانتخابات التشريعية في مستوى العمادة و الانتخابات الرئاسية . والمشكلة هنا في الانتخابات التشريعية التي تعتمد العمادة كدائرة انتخابية في حين انها تقسيم ترابي -اداري لا غير ولا يجب أن تعتبر دائرة انتخابية دائمة لسبب جوهري معاد للديمقراطية هو الآتي: ان سكان العمادات لا يتساوون في العدد ومن الظلم تمثيل سكان كل عمادة في تونس بنائب واحد يصعد الى المجلس المحلي في المعتمدية التي تصعد بدورها نائبا واحدا عنها في المجلس التشريعي الوطني مهما كان عدد سكانها بحيث نجد أن نواب تونس /الداخل (ليس المهجر) عددهم يساوي عدد المعتمديّات التونسية.

وللتنبيه الى خطورة هذا بوصفه ضربا للمساواة الديمقراطية في التمثيل النيابي نذكّر مثلا أن أكبر معتمدية في تونس من حيث عدد السكان هي معتمديّة سكّرة في ولاية أريانة التي تعدّ 150.435 مواطن بينما أصغر معتمدية من حيث عدد السكان هي معتمدية مطماطة في ولاية قابس و التي تعدّ 4.038 مواطن فحسب (2) . وهذا يعني أن سكان مطماطة يمثلون 1 على 37,25 من سكان سكّرة، ومع ذلك يمثل كل من المعتمديتين نائب واحد في المجلس التشريعي الوطني. وهذا النوع من عدم المساواة هو قاعدة عامة في 'الديمقراطية القاعدية' التي تعتمد العمادة ثم المعتمدية كرافعة لتصعيد نائب على المستوى الوطني.

إنّ هذا النوع من الدوائر الانتخابية يضرب في العمق مبدأ المساواة في التمثيل الديمقراطي القائم على تمثيل البشر حسب عددهم وليس تمثيل رقاع ترابية/ادارية .وهو بذلك يضرب التعريف الأوّلي للديمقراطية بوصفها 'حكم الشعب' بوصفه مجموعة بشرية وهو يقضي تماما على أي معنى ديمقراطي معروف للأقلية والأغلبية . وكي نعطي مثلا على ذلك نذكر أن أكبر خمس معتمديات في تونس ،وهي على التوالي سكّرة،روّاد ،صفاقس الجنوبية،سيدي حسين وساقية الدائر، تجمع بينها 664.182 مواطنا بينما أصغر خمس معتمديات في تونس،وهي على التوالي مطماطة وسيدي بوبكر وذهيبة وحزوة و رجيم معتوق،تجمع فقط 59.006 مواطن،أي أن العلاقة بينها هي أقل من 1 الى 11 ، ومع ذلك لكل من المعتمديات الأولى و الثانية خمسة ممثلين في المجلس التشريعي الوطني.

إن هذا النوع من الدوائر الانتخابية الخاضع للدوائر الترابية/الادارية هو نوع غير ديمقراطي لأنه لا يعتمد قاعدة تمثيل ديمغرافية موحدة (أو حتى متقاربة) وهو يضرب مبدأ المساواة في التمثيل النيابي في العمق (عدد النواب يكون حسب عدد الناخبين) ويمنع بالتالي من الحصول على أغلبية وأقلية ديمقراطية شعبية لأنه يؤدي الى تكون أغلبية وأقلية ترابية/ادارية لا غير بحيث يمكن أن تتكون أغلبية في المجلس من نواب المعتمديات الأقل كثافة سكانية ضد أقلّية من نواب المعتمديات الأكثر كثافة سكانية فنصبح أمام انقلاب تراجيدي لمفهوم الأغلبية والأقلية الديمقراطي المعترف به كونيا لندخل في تجربة مرتجلة قد تكون كارثية على وحدة الشعب .

ويبرر أنصار المشروع الديمقراطي القاعدي هذا بمبدأ التمييز الايجابي للمعتمديات الفقيرة و الداخلية وهم لا يعون أن عدد الفقراء و المهمشين في سيدي حسين مثلا ( وهم كلهم من الدواخل) أو في أية معتمدية كبرى (هناك أكثر من عشرة في تونس يتجاوز عدد سكانها 100 ألف) يفوق كل سكان المعتمديات الصغرى المذكورة أعلاه مجتمعة بحيث لا يبقى سوى مقياس جغرافي في القرب من السواحل يميزهم في حين أن المسألة ليست جغرافية بل سكانية بالأساس وأن التمييز الايجابي يقع في الميزانية والاستثمار وغيره وليس في ضرب ابسط مبدأ ديمقراطي في ضرورة تناسب عدد النواب مع عدد الناخبين .

وإن الاحتجاح بأنه اذا حازت ولايات السواحل على أغلبية نواب المجلس الوطني على حساب نواب الدواخل سيؤدي ذلك الى تواصل انعدام التوازن الجهوي هو احتجاج صحيح جزئيا لكنه ليس صحيحا كلّيا ؛ اذ من ناحية يعود الأمر الى آليات الاقتصاد الرأسمالي نفسها ، وهي موجودة في أرقى دول العالم الرأسمالي و نحن لا نرى قيس سعيد يطالب بتجاوز الرأسمالية، ومن ناحية ثانية ،وهذا ما يهم مقالنا هذا، يمكن تجاوز الأمر نسبيا عبر المقترح التالي:

يمكن في تونس تكوين 'مجلس الولايات' كغرفة تشريعية ثانية تشبه 'مجلش الشيوخ' في بعض الدول وتشبه 'مجلس القوميات' أو 'المجلس الاتحادي' في بعض الدول الفدرالية. ومجلس الولايات هذا (و الذي يمكنه أن يشتغل في مقر مجلس المستشارين الموجود ) تمثل فيه كل الولايات بنفس عدد النواب بالتساوي وتكون مهمته تعديل السياسات الوطنية العمومية التي يقترحها المجلس التشريعي الوطني في اتجاه التوازن الجهوي ويقوم باقتراح حوافز تشريعية للتشجيع على الاستثمار الخاص ،الخ.

ويمكن أن تكون له سلطة 'فيتو' في مجالات معينة بشروط أغلبية معينة مثلا. وهذا يمكن أن يساعد من ناحية على ترك المجلس الوطني يتكون على أساس ديمغرافي و يقوم بوظائفه بشكل عادي، ومن ناحية ثانية على الربط وقتها بين المجالس المحلية و الجهوية و مجلس الولايات بطريقة جديدة مقارنة بما كان موجودا وبما يطرحه مشروع الديمقراطية القاعدية ،و كلاهما غير سليم.

4- الانتخاب...وحرية الأحزاب :

في تصريح السيدة سنية الشربطي في الندوة المذكورة أعلاه ، ورد أن مقترح قانون 'الديمقراطية القاعدية' الانتخابي سيمنع الناس من الدعاية الحزبية أثناء الحملات الانتخابية بحجة صيانة نقاوة مبدأ التصويت على الأفراد، ثم ذكرت أن الأحزاب بإمكانها الحضور (دون تصويت) في اجتماعات المجالس المحلية أو غيرها بوصفها حسب رأيها 'من مكونات المجتمع المدني' مثلها مثل الجمعيات و المنظمات.

لن أناقش وجاهة اعتبار الأحزاب من ضمن 'المجتمع المدني' وتمييزها عن اعتبارها من ضمن 'المجتمع السياسي' من الناحية النظرية لأن ذلك ليس هدفي الآن ويمكن الاتفاق أو الاختلاف حوله دون أن يحل الأمر الذي يعنينا. ولكن الفكرة 'الديمقراطية القاعدية' هذه معادية للأحزاب 'بلطف' مؤقت هدفه اضعافها تمهيدا للقضاء عليها 'دون تشريع' صارم لا غير.انه تعويل على 'اضمحلالها' ولكن من خلال محاصرتها في احدى أهم وظائفها.

إن أبسط مبادئ مادّة 'التربية المدنية' التي يتعلمها أطفالنا تقول ان الحزب السياسي هو "تنظيم سياسي ...يهدف الى الوصول الى الحكم ...عبر الانتخابات " من خلال تقديم المترشحين. ولكن يبدو أن 'الديمقراطية القاعدية' لها رأي آخر لأنها ستمنع الأفراد المترشحين من اعلان انتمائهم لأحزابهم ومساعدة هذه الأخيرة لهم في اقناع الناخبين بوجاهة برامجهم كي يصلوا الى المجالس المحلية ثم يتم تصعيدهم (بالقرعة) الى المستويات الجهوية و الوطنية، كما يبدو أنها ستمنع المرشحين الى رئاسة الجمهورية (وفق نفس المبدأ) من اعلان انتمائهم الى الأحزاب وقيام هذه الأخيرة بالنشاط في الحملة الانتخابية الرئاسية.وإن هذا يعادي أبسط مبادئ الحرية الحزبية في الديمقراطية الحديثة التي لم تتجرأ عليها حتى بلدان الحزب الواحد ولم تفعلها سوى الدكتاتوريات العسكرية أو النظام الجماهيري في ليبيا .

انّ اعتماد التصويت على الأفراد في دوائر انتخابية صغيرة أو متوسطة في كثير من الدول الديمقراطية (كندا التي أعرفها أكثر مثلا- وأترك الولايات المتحدة لأن نظامها الانتخابي معقد كما أترك غيرها. ) ، يعني في كندا مثلا أن تعتمد أوّلا على دائرة انتخابية - صغيرة فعلا- و لكن ليس على دائرة ترابية وذلك من خلال اعادة تقسيم الدوائر باستمرار حسب نتائج احصائيات السكان وبالفصل أو بالدمج بين الدوائر الترابية حتى تكون الدوائر الانتخابية متوازنة ديمغرافيا. ومن ناحية ثانية ،يسمح القانون الانتخابي للمستقلين وللمترشحين عن الأحزاب بذكر صفتهم المستقلة أو الحزبية على ورقة الانتخاب ،وبالطبع يسمح للأحزاب بمساعدة مرشحيها في الدعاية الانتخابية .

أنّ منع الأحزاب من الدعاية الانتخابية لمرشحيها هو اعتداء على حرية الأحزاب في الديمقراطية لا أكثر و لا اقل ، وهو بالمناسبة منع كوميدي لأن الأحزاب يمكنها فعل ذلك قبل 'الحملة' أو بطرق ملتوية أخرى غير معلنة حتى أثناء الحملة، خاصة وأن الديمقراطية القاعدية تقع في 'العمادة' والناس يعرفون بعضهم البعض.ولذلك يبدو أن الفكرة ليست مطروحة اقتناعا بجدواها الانتخابية بل بجدواها الايديولوجية المعادية استراتيجيا للأحزاب تحضيرا لقتلها الذي يؤسفني ،وأنا المستقل عن الأحزاب ولكن الذي يؤمن بحقها ودورها في النشاط بما في ذلك الترشيح والانتخاب و الدعاية أثناءهما ، أن أقول إن هذا الموت الحزبي يراد له أن يبدو موتا طبيعيا في محاولة فاشلة لإقناع المتحزّبين خاصة بأن من يقبل الموت الحزبي منهم سيموت شهيدا في سبيل جنة 'العصر الجديد' الديمقراطية القاعدية .

5- القاعدة التي قد تغرق الهرم الديمقراطي :

أنهي هذه النقاط الخمس باختصار كبير عبر العودة الى تفقد أدوار المجالس المحلية التي أرى أنها مصاغة بطريقة 'تقلب الهرم' السياسي للدولة لتغرقه في رمل الديمقراطية القاعدية من خلال تحميل المجلس المحلي في المعتمدية أكثر من طاقته بعد رفض الفصل الديمقراطي المعروف بين مجلس التشريع الوطني و مجالس العمل المحلي و الجهوي التي تسند العمل البلدي الذي لن نتعرض اليه هنا. وأكتفي بهذه النقاط الخمس الآن مع امكانية العودة الى غيرها مستقبلا.

ببساطة شديدة،إن تكليف المجلس المحلي للمعتمدية (بعد انتخابات في العمادات حصريا) في نفس الوقت بإدارة شؤون المعتمدية وبتصعيد نائب (بالقرعة) الى المجلس التشريعي الوطني وتصعيد آخر (بالقرعة ايضا) الى المجلس الجهوي و مراقبتهما ومحاسبتهما وتنظيم التداول في وظيفتهما (عبر تحديد زمن وطني وآخر ولائي لعودة النائب الى المعتمدية وتعويضه بآخر في العاصمة أو الولاية ضمن المدة النيابية التي تدوم خمس سنوات فحسب في معتمديات بها أعداد متفاوتة من العمادات وبالتالي من الأعضاء ) هو إرهاق للمجلس المحلّي لا فائدة منه من الناحية الاجرائية رغم أنه يبدو مغريا ديمقراطيا ومنقولا على ما يبدو عن تجارب ديمقراطية محلية محدودة كتجربة حركة 'زاباطا' في اقليم ' شياباص' في المكسيك مثلا .

وهذا ، بالمناسبة ، يحرم الشعب من انتخاب نوابه في المجلس التشريعي الوطني انتخابا مباشرا و لا علاقة له بالتالي بالديمقراطية المباشرة كما يعتقد البعض مثلما لا علاقة له باللجان الشعبية الليبية (التي تشرع وتنفذ وتقاضي أصلا) أو بالمجالسية (وهي مرتبطة بمؤسسات الانتاج غالبا) بل هو 'بريكولاج' جديد يعتقد البعض من أنصاره أنهم به يعيدون اختراع عجلة الديمقراطية بينما هم لا يفعلون سوى القيام بعمليات قصّ /لصق من هنا و هناك لإنتاج نظام يحمل في طياته بعض بذور التسلط و العطالة في نفس الوقت مع الأسف.

أنه بالإمكان اعتماد الدوائر الانتخابية الصغيرة (وليس الترابية) و مبدأ التصويت على الأفراد (بمن فيهم المتحزبين) و مبدأ حق العزل (وفق شروط يمكن أن يدخل ضمنها رأي المجلس المحلي أو الجهوي) الذي يمكن من التداول وقتها حتى على المستوى الوطني دون تحميل المجالس المحلية كل هذا الوزن الذي يغرقها و الذي يجعلها لا تقوم بشكل جيد بوظائفها المحلية فيؤثر ذلك على المجالس الجهوية.

إنه من العملي أكثر،إضافة الى المجالس البلدية، أن توجد مجالس محلية وجهوية مختصة في العمل المحلي و الجهوي وقد تتدخل (وفق شروط تناقش ) في التأثير على النائب على المستوى الوطني بما في ذلك طلب عزله من خلال نسبة مائوية من أعضاء تلك المجالس يمكن عضدها بعريضة شعبية تحمل أسماء عدد من الناخبين يتفق عليه ، و بالسبل القضائية (تسهيل أكثر لرفع الحصانة مثلا، الخ.).أما تقديم المجالس المحلية بهذه التركيبة المشوهة وبهذه الصلاحيات الواسعة فقد يكون علامة من علامات تشوهات ولادة هذه الديمقراطية القاعدية التي لا نزال لا نعرف عنها الكثير،هذا إن كان فيها الكثير اصلا،مع الأسف لأنها تبدو مختزلة في تصور تقني سياسي-انتخابي ومفتقدة لمشروع فكري وسياسي وتنظيمي ثري يسمح بالتفاعل معه بما يليق بتونس القرن الحادي و العشرين.

خاتمة :

إن نقد الديمقراطية التمثيلية ضروري جدا وأصلاحها يجب أن يكون دائما على جدول الأعمال خاصة اذا بقيت تمارس ضمن الرأسمالية ، التي لا تقول عنها الديمقراطية القاعدية التونسية شيئا يذكر كثيرا بالمناسبة ، ولكن الذهاب الى ترميق شكل من 'البناء القاعدي' الذي تتجمع فيه مبادئ معادية للديمقراطية وأخرى مرهقة لسيرها أمر مخيف خاصة اذا قدّم كنموذج فريد لما يسمى 'النظام الديمقراطي الحقيقي' كما ورد في الأمر الرئاسي يوم 22 سبتمبر 2021.

و إن الدستور التونسي هنا لن يحتاج الى ما يبدو أن قيس سعيد وأنصاره يعدونه (بل يتوعّدونه) به . يمكن حسب رأيي المحافظة تقريبا على أهم مبادئه وأهم هياكله مع تعديلات و اضافات ( مثل مجلس الولايات) لإصلاحه هو و النظام الانتخابي مع انتباه وتفعيل خاصّيْن للباب المتعلق بالسلطة المحلية والجهوية .

وإن مقاومة الفساد الذي عرفته التجربة الجمهورية الديمقراطية البرلمانية التونسية منذ 2011 لا يمكن أن يكون إلاّ أمرا محمودا ، ولكن كيف؟ ومع من؟ وفي أي اتّجاه؟ هذا و ما سبقه و غيره يناقش .

وما دمنا وصلنا الى النقاش الذي هو جوهر هذا المقال فمن الواجب التذكير أن مساندة إعلان 25 جويلية وأمر 22 سبتمبر لا يعني ممارسة البيعة للخليفة عمر بن الخطاب الذي يحق له بعدها اختيار أهل الحل و العقد دون الرجوع الى الأحزاب و المنظمات و الجمعيات و النخب الوطنية الاجتماعية الديمقراطية لأننا في القرن الحادي و العشرين... ولأن 'أبا لؤلؤة المجوسي' الاقليمي و الدولي يحوم حول البلد من كل حدب وصوب كما يَعلَمُ حتما كلّ من " يفكّرون في ديمقراطيتنا".


الهوامش

هل ترانا 'نفكّر في ديمقراطيتنا' بعقل وآحترام وهدوء من أجل شعبنا يا ترى؟

1-رابط صفحة " لنفكر ديمقراطيتنا " على فايسبوك:
https://www.facebook.com/%D9%84%D9%86%D9%81%D9%83%D8%B1-%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%AA%D9%86%D8%A7-107036851737375

2- الجمهورية التونسية و وزارة التنمية والاستثمار و التعاون الدولي و المعهد الوطني للاحصاء، التقديرات السكانية حسب المعتمديات و البلديات في غرة جانفي 2020، جويلية 2020. (وثيقة من 33 صفحة صادرة عن 'احصائيات تونس' )

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات