النخبة التونسية و الاشكالية الشعبوية : أو كيف يقتل السّجال السياسي السطحي حول الشعبوية الجدال والصراع المعرفي و السياسي العميق حولها ويهدد الديمقراطية

ثلاثون سؤالا وسؤال

عندي ما يشبه القناعة الفكرية السياسية أن النخبة التونسية تتعامل مع أزمة الديمقراطية التونسية تعاملا سطحيا يظهر الآن بشكل كبير في العلاقة مع مسألة الشعبوية. وكي أبين ذلك سأكتفي بأسئلة يبقى للقارئ أن يرى ان كان يجد حولها اجابات تونسية.

1- لنبدأ باللغة : أترانا نعرف أن نعت 'الشعبوية' بوصفه مخالفا لنعت 'الشعبية ' (باضافة واو التبخيس هذه) يفترض اعتقادا راسخا في كوننا وحدنا نعرف معنى الشعب ووحدنا نمثله ونعده بنظام شعبي ولذلك نعتبر نعت الشعبوية وصما سلبيا لغيرنا ؟

2-وهل نعي عندها ان وصف الآخرين بالشعبوية قد يعكس نزعة علموية معرفيا (نحن وحدنا من يملك المعرفة بالشعبوية) وتسلطية سياسيا (نحن وحدنا نمثل الشعب) حتى لو كان منطلقنا في ذلك اعلان الدفاع عن الديمقراطية التي لدينا في الحقيقة تصورنا الخاص عنها وكل ما عداه 'ديمقراطويّة' (مع 'واو' تبخيس على وزن شعبوية) هو الآخر؟

3- هل نعي عندها أن وصف الآخرين بالشعبوية ما هو الا استراتيجية لغوية -رمزية -سياسية هدفها تحقيق هيمنة رمزية في صفوف الشعب على حساب الآخرين بأساليب قد لا تكون لها علاقة لا بالعلم و لا بالديمقراطية المزعومين؟

4-وهل نميّز يا ترى بين الشعبوية اليمينية و الوسطية و اليسارية وبالتالي ننتبه الى أن التعميم بالشعبوية دون تمييز أشكالها هو تعمية فكرية وسياسية وهو مفارقة لو اتفق عليه من ينتمون الى اليمين والوسط واليسار؟

5-و هل نميّز يا ترى بين الشعبوية الكلّية (التي تميز تيارا يصح فيه الوصف بالشعبوية وفق 'نموذج مثالي' أو تعريف واضح للشعبوية) و بين الشعبوية الجزئية بحيث يمكن وقتها أن نعترف ان التنظيرات و الممارسات الشعبوية الجزئية يمكن أن توجد عند جميع التيارات السياسية الكبرى تقريبا في مراحل الأزمات الحادّة التي تتطلب تحريكا كبيرا للشعب مما يتطلب شعبوية ما ننكرها جميعا بادعاء الشعبية؟

6-ولكن هل نعي كون هذا 'التعميم' (احتمال وجود أفكار وممارسات شعبوية عند الجميع) هو 'نسبوية معرفية سياسية' هدفها تعويم الأمر أيضا بإطلاق وصم الشعبوية على الجميع لتخفيف وطأة اطلاقه على طرف دون الآخرين يكون هو وحده متبني الشعبوية الكلية الفعلية؟

7- وهل نعي انه لا حل مطلقا لهذه المعضلة يمكن أن يكون مشتركا بين كل مخالفي الشعبوية لأنهم ليسوا متجانسين معرفيا وسياسيا بحيث سيبقى الأمر محل جدل دائم تقريبا بسبب اختلاف وتناقض المرجعيات المعرفية والاحداثيات السياسية ؟

8- وهل نعي عندها انه لا بدّ من التفريق بين التحليل /النقد اليساري و التحليل/النقد اليميني للشعبوية وأن ذلك يتمحور حول أمر أساسي : عن أية مصالح تدافع وأنت تنقد الشعبوية مما يتطلب نقاشا كبيرا حول 'القاعدة الاجتماعية' لما نعتبره شعبوية ؟

9-وهل نعي عندها انه حتى لو -فرضا- وجد اتفاق ما حول بعض الخصائص السياسية للشعبوية فانه سيبقى اختلاف كبير حول غيرها من الخصائص السياسية و حول خصائصها الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و خصائصها الوطنية /القومية مثلا؟

10- بل هل نعي انه حتى سياسيا لا يمكن الاتفاق حول مفهوم الشعبوية الا اذا كانت لنا نفس المرجعية الفكرية السياسية وأنه لا يمكن أن يتفق على خصائص الشعبوية اليساريون والليبيراليون مثلا الا بصفة وقتية وتكتيكية ؟

11- بعبارة أخرى،مثلا، هل نعي أن الاتفاق الوقتي الممكن حول خطر الشعبوية بين ليبيرالي ويساري لا يجب أن يحدث الا حول الشعبوية اليمينية -دون غيرها من الشعبويات- و الا أصبح اليساري غبيا و مخترقا بعلم السياسة الليبيرالي لأنه سيتفق مع اليميني ضد شعبوية يسارية مثلا (أو حتى وسطية لها طاقات اصلاحية ايجابية) ؟

12-وهل نعي أنه من المفارقة السياسية -التي عادة ما تكون ناتجة عن مخاتلة سياسية - أن يتفق اسلاموي وقومي وليبيرالي ويساري على ادانة الشعبوية في حين أن الشعبوية لا يمكنها أبدا أن تكون محل ادانة جماعية من هؤلاء الا اذا اتفقوا على مرجعية سياسية مشتركة لن تكون هي نفسها وقتها سوى 'ديمقراطوية'؟

13-وهل نعي كون الاسلام السياسي يمارس شعبويته الخاصة التي تعطي للشيخ (الأمير،الامام ) مكانة تعلو على التنظيمات و المؤسسات و الرّعيّة وتصبغه بهالة 'كاريسمية مقدّسة' تتجاوز اصلا هالة الزعيم الشعبوي التي قد لا تكون سوى كاريسمية سياسية دنياوية لا غير؟

14-وهل نعي كون بعض التجارب اليسارية نفسها وقعت في نفس الفخ الى درجة 'عبادة الشخصية' القيادية في حياتها وتحنيطها بعد موتها في ما يشبه العودة الى التقاليد الدينية الفرعونية؟

15- وهل نعي كون التيار القومي لم يسلم من ذلك مع فكرة /ممارسة 'الزعيم الخالد 'و 'القائد الرّمز' سواء في أوروبا البونابارتية و البسماركية و الغاريبالدية أو في وطننا العربي في تجاربه الناصرية و البعثية و القذافية؟

16- وهل نعي كون البورقيبية تحتوي في هذا الصدد على جرعة كبيرة من الشعبوية من خلال تعظيم 'المجاهد الأكبر' الذي خلق شعبه من 'غبار أفراد' أصلا وانه لا علاقة بين البورقيبية ومعاداة الشعبوية باسم الديمقراطية؟

17- وألا ننتبه الى كون كل هذه التيارات التي تدّعي نقد الشعبوية ضربت بعرض الحائط كلّ المؤسسات الرسمية و الهيئات البينمية و نكلت بمن خالفها من المثقفين واعتمدت كلها نظرية الحزب الواحد (ان وجد أصلا - ليبيا وايران ) و حولت النقابات (ان وجدت اصلا - ليبيا وايران ) الى عجلة خامسة للحزب و دمرت الجمعيات أو حولتها الى خلايا مراقبة و/ أو هيئات معاقبة وسخرت الحزب الحاكم نفسه لخدمة الزعيم الواحد الذي يعلو على المكتب السياسي و اللجنة المركزية ومجلس الشورى و مجلس قيادة الثورة ...وعلى الحكومة و على البرلمان (ان وجد) ؟

18-وهل نفهم وقتها معنى أن يجتمع بعض هؤلاء على نقد الشعبوية اليوم بعدما ساهموا بدرجات مختلفة -متفاوتة ومتناقضة- في تحويل الديمقراطية السياسية (التي لم يؤمنوا بها يوما الا كمرحلة عبور) الى نموذجهم الخاص من 'الاستبداد' الديمقراطي أو الوطني/القومي أو الاسلامي أو الشيوعي الا على انه اجتماع مخادع هدفه مواصلة حلب بقرة الديمقراطية الشكلية للوصول الى غاياتهم النهائية التي تشوش عليها الآن الشعبوية؟

19-ولكن هل نفهم أيضا ان كل هذا لا يبرّر التنكر للديمقراطية الشكلية بل يحتم تطويرها من حيث الشكل و المحتوى بما في ذلك عبر الديمقراطيات المباشرة و الا برّرنا امكان لعب الشعبوية فعلا دور معبّد الطريق نحو السلطة الاستبدادية؟

20-وهل حدّدنا الى اليوم فعلا الخصائص التونسية لما يعتبر شعبوية قيسية وميزناها عن المزايدات عليها عبر الوصم بالمجالسية و القذافية و الفاشية من باب 'الاقتصاد في التفكير' الموصل الى الكسل الفكري السياسي باستعمال أبشع النعوت من باب المساجلة السياسية؟

21- وهل حدّدنا ان كانت هذه الشعبوية يمينية أم يسارية أم هي أقرب -حتى الآن- الى الوسطية بسبب جمعها بين يسارية سياسية (الديمقراطية القاعدية) وليبيرالية اقتصادية اجتماعية (الرأسمالية مع القطاع العمومي...) مع محافظة ثقافية (المواقف من الآرث والعدل و المساواة...) مع نزعة وطنية/قومية ولكن اصلاحية مثلا؟

22- وهل انتبهنا الى كون "التأسيس الجديد" هذا يقصر الانتخابات التشريعية المباشرة في مستوى العمادة فحسب ويكتفي بالقرعة و التعيين في باقي المستويات مما يجعله أبعد ما يكون عن الديمقراطية المباشرة ...اذا أخذناها في صيغتها الوطنية؟

23-وهل نعي المفارقة القيسية 'القاعدية' بين التأكيد على حق سحب الثقة من النائب التشريعي وغياب التأكيد على حق سحب الثقة من رئيس الجمهورية بما يعبر فعلا عن نزعة رئاسوية؟

24- وهل نعي كون تكليف الرئيس بتشكيل الحكومة في الديمقراطية القيسية الموعودة بقطع النظر عن وضع الأغلبية البرلمانية فيها هو أيضا نزعة رئاسويّة؟

25- وهل يعي القيسيون أن اعتماد المعتمدية (كتقسيم ترابي) كدائرة قاعدية هو ضرب لأبسط مباديء التمثيلية الديمقراطية القائمة على الدائرة الانتخابية (وليس الترابية) التي بها عدد ناخبين معادل لغيرها من الدوائر ، خاصة وانك يمكن أن تجد في تونس (في الجنوب) معتمدية لا يسكنها أكثر من 3 آلاف مواطن و أخرى (في المدن الكبرى : تونس،نابل،سوسة ،صفاقس) يسكنها أكثر من 120 ألف مواطن مما يمثل نسبة 1/40؟

26- وهل يعي القيسيون أنهم يقدّمون ' التأسيس الجديد' بطريقة تجعل المجلس المحلي (في المعتمدية) مسؤولا في نفس الوقت عن المحلي و عن الجهوي (ترشيح نواب المعتمدية في الولاية بالقرعة ) و عن الوطني (ترشيح نائب للمجلس التشريعي الوطني) مما يجعله مثقلا بمهام كبرى قد تتجاوزه في حين انه من الممكن الفصل بين المسارين الوطني من ناحية و المحلي و الجهوي من ناحية ثانية مع مواصلة اعتماد الدوائر الصغيرة (ولكن الانتخابية وليس الترابية) على المستوى الوطني واقرار حق العزل مما ينظم أكثر العلاقة بين المحلي و الجهوي و الوطني؟

27- وهل يعي القيسيون خطورة الاكتفاء بتقديم بديل نظام سياسي و انتخابي سيضمن في 'دستور جديد' دون تقديم برامج اقتصادية واجتماعية وثقافية وطنية ملزمة للدولة ولكل ولاياتها وأن ذلك (تصوروا الأمر في لبنان لتسهيل الفهم) قد يفتح المجال لأن تسلك كل معتمدية وكل ولاية سياسات خاصة بها تفرضها 'الديمقراطية القاعدية' وقد تؤدي الى نزاعات محلية وجهوية في صورة عدم الاتفاق على 'التأليف' الذي يطالبون به؟

28-وهل يعي القيسيون بالتالي أن الاكتفاء بشعار "الشعب يريد" يمكن أن يتحول فعلا الى ضرب من الشعبوية القادرة على الانزلاق بسهولة يمينا أو يسارا حسب موازين القوى المحلية و الجهوية وغير القادرة في أحسن الحالات سوى على البقاء وسطا بحثا عن التأليف مما يمكن أن يصبح مولّدا لحالة من العطالة والدوران في حلقة مفرغة من الناحية التاريخية؟

29- وهل يعي القيسيون يا ترى أن اعلانهم دخولنا في 'عصر جديد ' يتجاوز الأحزاب سوف يجعلهم أعجر الناس عن التأليف بيهم هم أنفسهم مما قد يدفع بعضهم -أمام تنظم وقوة الأحزاب- الى الانزلاق نحو معاداة هذه الأخيرة و الرغبة في منعها على عكس ما يصرّح بع قيس سعيّد -مبدئيا - ولكن -للحقيقة- في تناسق مع بعض ما يمارسه من تهميش فعلي للأحزاب السياسية التي يعرف جيّدا أنها لو بقيت يمكنها أن تقدم مترشحيها (كأفراد مسنودين من أحزابهم) في انتخاباته المحلية والرئاسية مما قد يفقده هيمنته حتى باعتماد ديمقراطيته القاعدية وهل يعون خطورة ذلك على العلاقة بين منخرطي تنسيقيات 'الشعب يريد' ومنخرطي الأحزاب السياسية ،تلك الخطورة التي يمكن أن توصلنا وقتها الى الفوضى أو التسلطية؟

30- ولكن، هل تعي بقية النخبة السياسية التونسية أن ذلك لا يعني عدم طرح الأسئلة المحرجة عن الديمقراطية وأن نقاش الشعبوية لا يجب أن يعني تقديس الديمقراطية التمثيلية بشرط أن يتم الأمر داخل اطار الوطن وضمن المربعات الديمقراطية؟

خاتمة:

هل تعي النخبة التونسية ما وصلنا اليه و هل نناقش يا ترى الآن مساوئ الجميع - ولكن المتفاوتة و المتناقضة كي لا نعمم ونعمي - بما فيها مساوىء الشعبوية، نقاشا يرتقي الى رتبة الجدال المعرفي السياسي الحقيقي الذي يحمي الوطن (أرضا وشعبا ودولة) و يثري الحياة السياسية و لا يمنع من الصراع السياسي الضروري في المجتمع ، أم نواصل السجال الذي يخفي أزمة فكرية سياسية حقيقية ولذلك يجنّد من كل الجهات اصطفافات يمكن وصفها بما هو أسوأ من الشعبوية و قد تكون عاملا من عوامل تخريب ما بدأناه من تجربة ديمقراطية؟

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات