حمّة الهمّامي ونقده لشعبوية قيس سعيّد: خطوة الى الوراء وقفزة في الهواء!

Photo

اطّلعت على مقال حمّة الهمّامي المعنون " الشعبوية في تونس:قيس سعيّد ومؤيّدوه" الصادر في "الشارع المغاربي" في 29 سبتمبر 2020 ووجدت فيه "خطوة الى الوراء" في التحليل و"قفزة في الهواء" في البديل وذلك كما يلي باختصار شديد:

1-في التحليل : خطوة الى الوراء

أ- اكتفى حمّة الهمّامي في البداية بالتعريف المتداول للشعبوية الذي ينقد فيها سعيها لتجاوز الديمقراطية الليبيرالية والحرية و التمثيلية و الأحزاب،الخ - دون تجاوز الرأسمالية - مما جعله لا يميز الشعبويات سوى في شكلها عندما ذكر ،اضافة الى شعبوية قيس سعيد ، كلا من 'الشعبوية الاجتماعية' لنبيل القروي/قلب تونس و 'الشعبوية الدينية -السلفية' لسيف الدين مخلوف /ائتلاف الكرامة. و رغم تصريحه بكون الفلسفة والعلوم الانسانية تتحدث عن الشعبوية بصيغة المفرد/الجمع الا أنّه ورّط نفسه في تعميم اعتبار كل الشعبويات يمينية ولم يميز بين الشعبوية اليمينية و الشعبوية الوسطية و الشعبوية اليسارية على عكس قسم من الفلسفة والعلوم الاجتماعية غاب عنه تماما.

ونتيجة لذلك اعتبر قيس سعيّد يمينيا متطرّفا مثله مثل ترامب ومثل مارين لوبان الفرنسية، الخ، فارتكب بذلك خطأ آخر هو عدم التمييز بين الشعبوية في الدول الاستعمارية والامبريالية من ناحية والشعبوية في الدول المستعمرة والتابعة من ناحية ثانية. وذلك يؤدّي حتما الى احتمال ارتكاب أخطاء سياسية لأنّ النزعات القومية والدينية والشعبوية (ولو كانت محافظة) هناك لا تلعب نفس الدور الذي قد تلعبه هنا رغم ضرورة نقدها والتمايز عنها.

يكفي هنا الذكير بأمرين:

أ-لينين نقد الشعبوية الفلاحية الروسية ولم يعتبرها يمينا متطرفا بل اعتبرها تيارا ثوريا ديمقراطيا بورجوازيا صغيرا وتقاطع معها نضاليا بل وحكم مع قسم منها (الحزب الاشتراكي اليساري) حوالي سنتين بعد ثورة أكتوبر نفسها.و لينين وستالين اعتبرا الملك الأفغاني المناضل ضد الاحتلال الأنغليزي وطنيا -وثوريا بالمعنى الموضوعي- رغم برنامجه غير الجمهوري و غير الديمقراطي أصلا،الخ.

ب- حمة الهمامي نفسه -هو وحزبه- كانوا مثلا يعتبرون حتّى مناضلي تيار 'الوطد' اليساري شعبويين (وفوضويين)، ولكن ليسوا من اليمين المحافظ طبعا، وتحالفوا ويتحالفون مع أقسام منهم مما يعني كون حمة الهمامي تراجع خطوة الى الوراء في مستوى التحليل النظري -السياسي حتى مقارنة بما كان يكتبه هو وحزبه سابقا.

2-في البديل : خطوة في الهواء

للتّمايز عن النقد الليبيرالي للشعبوية ركّز حمة الهمامي على ما يمكن تسميته 'الديمقراطية الشعبية' اليسارية التي تربط تجاوز الديمقراطية الليبيرالية بضرورة القضاء على الرأسمالية قائلا: " إن شعبويينا يجهلون أو يتجاهلون أن إقامة 'ديمقراطية الشعب' بدل الديمقراطية الليبرالية المتعفنة والمتأزمة تبقى وهما بل مغالطة كبرى إذا لم ترتبط بتغيير القاعدة المادية للمجتمع ولم تصبح ثرواته ملكا لهذا الشعب حتى يكون حقا صاحب السلطة الفعلية."

وقام حمّة الهمامي بذلك بقفزة يسارية في الهواء فوق ما يدعو اليه حزبه (والجبهة الشعبية سابقا) منذ تسعة سنوات من 'جمهورية ديمقراطية اجتماعية'. ويبدو لي أن حزب العمال ،بعد فشل تجربة الجبهة الشعبية، قد سلك سياسة الهروب الى الأمام 'اليسراوية' التي هي سبب مواقفه السلبية الأخيرة من امكان عقد الجبهات السياسية .

والغريب هنا أن حمّة يدافع عن التعديية الحزبية والديمقراطية الاعلامية وغيرهما من الحريات في إطار نقد الشعبوية 'من اليسار' ولكننا عندما نستذكر أطروحات حمة الهمامي وحزب العمال القديمة والمتجدّدة حول 'الديمقراطية الشعبية' لا نعثر على ذلك لا في تجربة ستالين في الاتحاد السوفياتي ولا في تجربة أنور خوجة في ألبانيا في الوقت الذي لا نقرأ فيه مراجعات لهذه التجارب في رؤيتها للمسألة الديمقراطية بل نعثر على العكس تماما ضد كل من حاولوا مراجعة ذلك داخل حزب العمال نفسه.

ونجد في المقال أثرا لهذا في 'نقد الاصلاحية' عند جناح من الجبهة الشعبية السابقة باسم " ثورية اجتماعية عقلانية" يبدو أنّها تقفز في الهواء باتجاه نزعة أورثوذكسية ليس فقط فوق ' الجمهورية الديمقراطية الاجتماعية' بل حتى فوق 'الديمقراطية الشعبية' التي كانت تعترف بتعدد شكلي للأحزاب (كما فعلت الصين في عهد ماو مثلا). و لكن من 'المفارقة' أن حمة الهمامي و حزبه لم يعد تربطهم علاقات جيّدة نسبيا من أجل 'الديمقراطية الشعبية' هذه سوى مع التيار الشعبي (الناصري :في حين منع عبدالناصر الأحزاب ثم أسس الاتحاد الاشتراكي كحزب واحد لم يعترف لا بالبرلمانية و لا بحرية الاحزاب و الاعلام و لا غيرها) وجناح من 'حزب الوطد الاشتراكي (الستاليني:في حين ستالين لم يمنع فقط تعدد الأحزاب بل حتى الأجنحة داخل الحزب الواحد…) مما يعني كون حزب العمال وحلفائه قد يتحالفون الآن كي يقضي الفائز منهم لاحقا ليس فقط على خصومه بل حتى على حلفائه الحاليين في ' الديمقراطية الشعبية' الموعودة باسم الثورية!

باختصار، ان 'الثورية الاجتماعية العقلانية ' التي ينادي بها حمة الهمّامي الآن وان لمعت نظريا - في عيون بعض المثقفين خاصة - فهي ترتكس سياسيا لسبب موضوعي عندما تكون الحركة الاجتماعية غير ثورية ليبقى منها طابعها 'العقلاني' و 'العلمي'. وهذا النهج 'العقلاني' يقع في فخّ النقد الوضعي -العقلانوي للشعبوية الذي تمارسه القوى غير الثورية اجتماعيا فيخدمها دون أن يشعر وبحسن نية ثورية تامة لأنّه لا يفرّق بين الشعبويات (الا شكليا (اجتماعية ودينية-سلفية،الخ) ولكن ليس سياسيا (يمينية ووسطية ويسارية ) ويصبّ جام غضبه على كل نزعة محافظة دون تمييز بين المحافظات التابعة ( مثل تبعية بعض الحداثيين على فكرة ) و الوطنية (مثل وطنية بعض غير الشعبويين على فكرة) من ناحية و الجزئية (التي يمكن أن تقبل بالديمقراطية الاجتماعية ولو بشكل جزئي ما مثلا ) و الكلية (التي ترفضها تماما) من ناحية ثانية ،الخ.

انّ أكبر دليل على هذا الخطر هو قول حمة الهمامي في مقدّمة مقاله ان " قيس سعيد بالنسبة إلي هو العنوان الأبرز للتيار الشعبوية التقليدي، الزاحف حاليا في العديد من مناطق العالم " بما يعني كونه قد يمثل الخطر الأساسي في تونس -خاصة وأنه رئيس الجمهورية - و بما يعني كون "الثورية الاجتماعية العقلانية" عند حمّة الهمامي و حزب العمال قد تبرّر غدا العودة الى نوع من القياس على صفة 'الفاشية' التي كانوا يطلقونها على كلّ من هبّ ودبّ في تونس لتبرير تكتيكات وتحالفات ' معادية للشعبوية' -لا نعرف مع من الآن- ضمن 'الأفق الديمقراطي الشعبي" فنعود بذلك بعد 'القفزة في الهواء' الى "الخطوة الى الوراء" .

هل يجب نقد شعبوية قيس سعيّد ومؤيّديه؟

نعم ولكن …هنالك شعبوية وشعبوية وهنالك نقد ونقد وهنالك سياسة وسياسة. ويجب التثبت من الاحداثيات الموقعية والموقفية لتلك الشعبوية ولذلك النقد وتلك السياسة بدقّة كبيرة في وضع تونس الحالي. ويسارا (ووسطا) يجب الانتباه الى أمرين:

-أية 'ثورية اجتماعية' تريدون وأنتم تطالبون بالجمهورية الوطنية الاجتماعية الديمقراطية ؟

-وأية 'ثورية عقلانية' تريدون وأنتم تنقدون الثورية 'المثالية' الوضعيّة و العقلانوية؟

يا أهل اليسار (والوسط) الوطني الاجتماعي الديمقراطي التونسي عموما: جدّدوا و عدّلوا البوصلة!

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات