شريف الفرجاني و قيس سعيّد و كارل شميت و الثّورة المحافظة -الجزء 2 : ردّا على الرّدّ…

Photo

الاهداء : الى شباب تونس من ضحايا حادث عمدون/ باجة .

تقديم : " أصدقاء العلم ورفاق الأنسنة "

'أصدقاء العلم ورفاق الأنسنة ' - المأخوذ مجازا عن اخوان الصّفا و خلاّن الوفاء - هو العنوان الذي يروق لي في وصف علاقتي بأستاذي و صديقي محمّد شريف الفرجاني. هذا وحده يكفي - دون الدّخول في تفاصيل شخصيّة - للقول انّ ردّي على مقاله الأصلي لا يمكن أن تشوبه شائبة شخصيّة لأنّه لا يأمل سوى في النقاش الفكري والسياسي لما فيه خير الفكر والانسان في تونس مع المحافظة على كلّ المحبّة الشّخصيّة رغم الاختلاف ان حصل.

أنطلق من هذا لأشير الى كوني لا أشعر بنفسي معنيّا بشكل شخصي بنقاش آخر فقرة في الردّ ولا بالنقطة التّاسعة حول نبيل القروي. فلا محاكمة نوايا ولا سوء نيّة ولا تشويه أفكار – الا ما قد يحصل نتيجة تأويل خاطئ عن حسن نيّة - ولا نسيان لما نعرفه عن بعضنا. وما قمت بنقاشه حول قيس سعيّد لا يسمح بأي تأويل يفيد أيّة علاقة بنبيل القروي لأنّني أعرف أوّلا، وشخصيّا، موقفك الانتخابي والسياسي منه وأنا، ثانيا، لست ممّن يستسهلون ذلك القول/الموقف المألوف 'ان لم تكن مع فلان فأنت 'موضوعيّا' مع الآخر' اذ يوجد دائما 'موقف ثالث' ورابع وعاشر ممكن، ولا بدّ من احترام صاحبه مهما اختلفنا معه.

وأعود الى الأهمّ الذي هو النّقاش الفكري الذي سأعتمد فيه تمشّيا خطّيّا للتفاعل مع نقاط ردّك - الثمانية -واحدة بواحدة:

1-حول اعتماد' الاستنتاج ' و' الترجيح' و حول 'الدور الاجتماعي للدّولة' و 'النيوليبيراليّة' :

وردت المسألة في النّقطة الأولى من رّدّك المحيّن الذي احتوى على نقاط تسع. وأنا لم أكن ولا أرفض هذه العمليّات المنهجية كعمليّات منهجيّة. ولذلك قلت في خاتمة ردّي الأوّل كونني ربّما اعتمدت نفس التمشّي معك في الحكم على مقال صغير واستنتاج ما قد لا يكون مناسبا منه. ومن حسن الحظّ كون ردّك يساعد على استيضاح نقاط في انتظار الأخرى.

ليس المشكل في اعتماد الاستنتاج والترجيح والقياس منهجيّا اذن بل في محتوياتهم. وقد رأيت ولا زلت أرى كونك بالغت في أمر استنتاج نزعة ثورية محافظة لقيس سعيّد انطلاقا من عمليّتين منهجيّتين غير مناسبتين: اختيار جملة من أفكار لمنظّر ودستوري نازي ألماني هو كارل شميت كمنطلق اعتمد كنموذج مثالي نظري ومحاولة البحث في تصريحات وممارسات قيس سعيّد عمّا يبدو مطابقا لها – ولو كان 'مسحوبا من الشّعر' كما يقال – واهمال ما لا يبدو مطابقا وذلك بعدم نقاش احتمال ألاّ تكون الفرضيّة صحيحة.

لقد بدوت لي مصرّا أكثر من اللاّزم على اثبات الفرضيّة بقياس مبالغ فيه بين ألمانيا النازية وتونس الحالية و بين فكر شميدت –القومي المحافظ - وفكر قيس سعيّد ولم تسع الى التفكير في احتمال ضعف الفرضيّة أو خطئها أصلا بحيث بدت لي كمسلّمة سعيت لإثباتها رغم اختلاف المجتمع و المكان و الزمان ورغم قلّة المعلومات وضبابية التصريحات و الممارسات، خاصة تلك الرّمزيّة منها على قلّتها هي الأخرى.

و ها أنت تعيد نفس المشكلة المنهجيّة في ردّك الحالي عندما رفضت فكرتي التي تقول أنّ قيس سعيّد قد تعرّض بالإيجاب الى الدّور الاقتصادي و الاجتماعي للدّولة في تونس كرافعة اجتماعية وقلت انّك لو اكتشفت ذلك "ستصفّق له بيديك و قدميك " و كتبت حرفيّا عنّي:

". La seule chose qu’il ajoute, dans le corps de l’article, par rapport à ce que l’on sait de ce projet dont on ne connait, en fait, pas grand-chose, c’est qu’il « défend le rôle social de l’Etat en tant que levier économique et garantie sociale » (sans préciser où il a développé cette conception du rôle social de l’Etat qui me semble un rôle fondamental pour contrer les recettes néolibérales et que j’applaudirais des mains et des pieds si c’est le cas)."

اليك اذن، و دعني أمازحك، بإمكانك البدء في التّصفيق الذي أعرف أنّك لا تجيده الا للحقيقة و للحقّ وللجمال،الخ.

هذا ما كتبه /قاله قيس سعيّد في خطاب القسم يوم 23 أكتوبر الماضي:

" إنّ الأمانة أيضا التي لاشكّ بأنّ الجميع يشعر بثقل أوزارها، هي الحفاظ على الدّولة التونسيّة، الكلّ سيمرّ ويمضي، والدولة هي التي يجب أن تستمرّ وتبقىّ، الدولة التونسيّة بكلّ مرافقها، هي دولة التونسيّين والتونسيات، على قدم المساواة، وأوّل المبادئ التي تقوم عليها، هي المرافق العموميّة التي تقوم عليها، أوّل المبادئ هو الحياد، الكلّ حرّ في قناعاته واختياراته، ولكنّ مرافق الدّولة يجب أن تبقى خارج حسابات السياسة، فمثل هذه الحسابات هي كالحشرات في الثّمار، مآلها التعفّن قبل السقوط، وليس أخطر على الدول والمجتمعات من تآكلها من الدّاخل، إنّ الأمانة أيضا هي الحفاظ على مكتسبات المجموعة الوطنيّة، و ثرواتها، كلّ واحد من أبناء هذا الوطن العزيز يجب أن يكون قدوة ولا مجال للتّسامح في أيّ ملّيم واحد من عرق أبناء هذا الشعب العظيم.( 1)"

وقبل ذلك، سبق لقيس سعيّد أن قال في تدخّلاته في الحملة الانتخابية كون حقوق الشغل والصحّة والتعليم والضمان الاجتماعي وغيرها هي مسؤولية الدّولة و هي ليست فقط حقوقا ' للمواطن' بل حقوقا 'للانسان'. وقد عبّر عن ذلك مثلا لجريدة الشعب الناطقة باسم اتحاد الشغل إثر لقائه بقيادته. وبإمكانك الرّجوع الى حواره فيها بتاريخ 26 سبتمبر2019 (2). وقد أدّى ذلك اللقاء الى تصريح السّيد سامي الطاهري –الناطق الاعلامي باسم الاتحاد – كون قيس سعيّد نقابي قديم ومتمسّك بالاتّحاد وهو يدافع عن الدولة المدنية ويتفق مع اتحاد الشغل في عدّة نقاط، الخ. (3)

ماذا يعني هذا في نقاشنا؟

يعني كون قيس سعيّد لا ترتبط محافظته) التي نترك نقاش صنفها الآن (بتصوّر ليبيرالي جديد قائم على تنصّل الدّولة من مسؤولياتها الاقتصادية والاجتماعية بل بالعكس تماما: هو أضاف لجريدة الشعب - في حوار نفس العدد - كونه حتّى لو كانت هنالك مؤسسات مرافق عموميّة تعاني ماليّا فانّه ليس مطروحا بالمرّة خوصصتها بل واجبا اصلاحها لأنّ تلك الخدمات 'لا تخضع الى منطق الرّبح ' وهي ' أساسيّة مثل الماء والهواء' وذلك فقط ما يدخل في إطار ما سمّاه 'انقاذ الدّولة التونسية من الانهيار'.

2- قيس سعيّد و الثورة المحافظة و الاسلام السياسي :

لمتني في النّقطة الثّانية من ردّك على نقدي لك بخصوص فرضية 'اعتبار الاسلام السياسي الشكل الذي تتمظهر به الثورة المحافظة في العالم الاسلامي' واستنتاجي كون 'قيس سعيّد هو بالتالي ينتمي الى الاسلام السياسي'. وها انّك توضّح أكثر الآن بالقول كونك تعتبر قيس سعيّد 'قوميّا محافظا' وتضيف كونه' 'اسلامي – متناسق' (4).

كتبت بالفرنسيّة:

"Concernant la première hypothèse, envisager l’islam politique comme version islamique de la révolution conservatrice, je l’ai annoncée à plusieurs reprises et je l’assume. Concernant Kais Saied, je n’ai jamais dit qu’il était islamiste. Je le considère, et je l’ai écrit dans deux précédents articles, sur la base de ce que je sais de ses discours, de ses déclarations et de ce qu’en disent celles et ceux qui le connaissent, y compris parmi ses soutiens, qu’il est un nationaliste conservateur et j’ajoute « islamo-compatible ». Je n’ai même pas repris les propos de ceux qui le présentent comme le vrai candidat d’Ennahdha et son « oiseau rare », ni même les déclarations de certains dirigeants islamistes parlant de lui comme leur « dernière chance »."

هنالك اذن نقطتان للنقاش:1- فرضية كون الاسلام السياسي هو شكل الثورة المحافظة في العالم الاسلامي و2- هل قيس سعيّد اسلامي أم قومي محافظ؟

أ-الاسلام السياسي و الثورة المحافظة:

أنت هنا في ردّك تتمسّك بكون الاسلام السياسي هو فعلا النّسخة الاسلاميّة من الثورة المحافظة وهذا يجعلني أطرح السؤّال التّالي :

هل الاسلام السياسي هو النّسخة الحصرية للثورة المحافظة في العالم الاسلامي أم لا؟

اجابتك في الردّ موضوع هذا النقاش هي: لا، بدليل كونه يمكن أن يعبّر عن هذه الثورة المحافظة أيضا زعيم "قومي محافظ " و' اسلامي –متناسق ' (ان صحّت الترجمة الأخيرة) بمعنى انّه –ان شئنا – عروبي- اسلاموي محافظ. ولا أعرف ان كان يمكن أن توجد حسب رأيك أشكال أخرى تعبّر عن الثورة المحافظة في العالم الاسلامي أم لا؟

ما يهمّني هنا هو التّالي: في مقالك الأصلي الصّادر في 'الهوفينغتن بوسط –مغرب ' كنت قد كتب:

« Menant des recherches sur la révolution conservatrice et le néolibéralisme, avec l’hypothèse que l’islam politique peut être approché comme l’expression islamique de la révolution conservatrice qui se mondialise en parallèle et en connivence avec la mondialisation du néolibéralisme, je me suis intéressé à l’un des plus grand théoriciens de la révolution conservatrice: juriste constitutionnaliste, comme Kaïs Saied, Carl Schmitt qui est beaucoup plus prolixe et beaucoup plus explicite que le nouveau chef d’Etat tunisien. »

في هذه الفقرة من نصّك، لا يستطيع القارئ، وهذا ما حصل معي، الا أن يستنتج كون الاسلام السياسي - دون غيره - هو الذي يمثّل التعبيرة الاسلامية للثورة المحافظة المتعولمة بالتوازي والتوافق الضمني مع عولمة الليبيرالية الجديدة، والا أن يستنتج من مرورك المباشر للحديث عن مقارنة قيس سعيّد بكارل شميت كون قيس سعيّد هو اذن من ' الاسلام السياسي'.

لنوضّح الصّورة أكثر كما ظهرت لي من مقالك: في ألمانيا، كانت النّازيّة هل الشكل الذي اتّخذته الثورة المحافظة بتنظير من كارل شميت على المستوى الدّستوري. في العالم الاسلامي، فرضيتك هي كون الاسلام السياسي هو الشكل الذي تأخذه الثورة المحافظة ولكن – وهنا الفرضية الثانية المشتقّة من الأولى – قيس سعيّد قد يكون هو مستلهم النظرية الدستوريّة للثورة المحافظة في العالم الاسلامي.

هذا ما استطعت أن أفهمه - باعتماد الاستنتاج المنهجي ايّاه - من فرضيّتيك بسبب عمومية و حصرية الصيغة المرتبطة بالاسلام السياسي و مرورك المباشر الى قيس سعيّد و علاقته بكارل شميت. هل ما كتبته أنت هو العامّ والغامض أم أنّني أنا من لم يفهم جيّد ا أم هذا وذالك؟

عموما، القارئ قرّاء وتلك كانت قراءتي لمقالك. والمهمّ الآن هو أنّك وضّحت أمرين جديدين هما:

- ليس الاسلام السياسي وحده يمكنه أن يكون تعبيرا عن الثورة المحافظة في العالم الاسلامي بل القوميّة المحافظة أيضا...وربّما هنالك أشكال أخرى. هنا أنت تعدّل بنفسك –كي لا أقول تفنّد- فرضيتك الأولى اذا فهمت كفرضيّة حصريّة بمعناها العام : الاسلام السياسي هو الشكل الاسلامي للثورة المحافظة في العالم.

- قيس سعيّد ليس اسلاميّا سيّاسيّا بل قوميّا محافظا و 'اسلاميّا متطابقا'. وهنا في الواقع أنت تنقذ الفرضيّة الأولى أعلاه من عموميّتها وحصريّتها ولكنّك ' تزيد الطّين بلّة ' من الجهة المقابلة لأنّك، من ناحية، تزيد من تقريب سعيّد من كارل شميت 'القومي المحافظ' بالأساس ولكن 'المسيحي الكاثوليكي المحافظ' أيضا كما ذكرت في ردّك علي. و، من ناحية ثانية، لاتميّز بين دور الحركة القومية في بلدين مثل ألمانيا وتونس، على فرض كون قيس سعيّد هو - بالأساس- قومي عربي محافظ أصلا. وهنا أمرّ معك الى النقطة الثانية.

- ب - قيس سعيّد قومي محافظ...و'اسلامي متطابق'

كنتُ قد أشرت اليك حول هذه النّقطة في ردّي ولكنّك لم تجبني وها اننّي اذكّرك بما يلي:

كتبت في مقالة 'الهوفينغ بوسط - مغرب ' أن قيس سعيّد هو 'قومي محافظ ' لأنّه يتّهم كل الحكومات السابقة بكونها عميلة للغرب. وفقرتك بالتّحديد هي التالية:

"Outre ces conceptions sommaires relatives au système politique, sans explication quant aux modalités de leur fonctionnement, il a déclaré et répété son hostilité à l’égalité en héritage, que le Coran aurait tranché et qui n’est pas une demande du peuple mais une soumission à la volonté de la Communauté Européenne, son hostilité à l’égard des homosexuels qui seraient “financés par l’Occident pour pervertir la ’umma”, et son nationalisme conservateur accusant tous les gouvernements qui se sont succédés à la tête de l’Etat de soumission aux puissances étrangères à la domination desquelles il faut mettre fin."

هل من ' القوميّة المحافظة ' في بلد تابع مثل تونس أن تقول كون الحكومات المتعاقبة على رأس الدّولة كانت خاضعة للقوى الأجنبيّة التي يجب وضع حدّ لهيمنتها؟

ألا يقول اليسار التونسي كلّه بهذا مثلا؟

فهل يعتبر اليسار نفسه 'محافظا ' عندما ينقد التّبعيّة التي تستسلم لها فعلا كل الحكومات التي تعاقبت على تونس باعتراف بورقيبة نفسه في خطاب 'البالماريوم 'الشهير صحبة وضدّ القذّافي (5) فما بالك بالبقيّة؟

أنا أحزر وأتمنّى أنّك لا تقصد هذا بالصيغة التي وردت في مقالك الأصلي وهي صيغة عامّة جدّا وقد أتفهّمها في مقال رغم لومي لتسرّعها كما تسرّعك في نقاط أخرى. ولكنّني خائف من اضافتك لعبارة "اسلامي متناسق' التي ستعتمد، هي بالأساس، لتأكيد كون قيس سعيّد 'قوميا محافظا ' وليس قوميّا اصلاحيّا أو تقدّميّا أو ثوريّا...خاصّة إذا ربطت، كما تفعل، بين المحافظة و النيوليبيرالية التي وضّحناها أعلاه.

ولكن دعنا من فعلي ' أحزر' و'أتمنّى' ومن حال 'خائف' ولنوضّح مسألة أهمّ حول ' التطابق' مع ' الاسلام السياسي' عند قيس سعيّد. قلت في ردّك انّك لا تعتبره من الاسلام السياسي وأنّك لم تستعمل عبارة 'العصفور النّادر' و 'مرشّح آخر فرصة ' وغيرها في البداية ثمّ أضفت انّه "اسلامي-متطابق ".

طيّب: أليس مهمّا الاستفادة من تصريح وزير الفلاحة النّهضاوي السابق محمّد بن سالم كون قيس سعيّد هو 'صاحب خلفيّة يسارية متطرّفة ' (6) لتنسيق الأمور باتّجاه 'الوسط'؟

من ناحية أخرى، يمكنني أن أسألك –منهجيّا- عن سبب ترجيحك لكونه يتطابق مع الاسلام السياسي وعدم انتباهك لامكانيات تقاطعه مع باقي القوى السياسية وتحديدا: القوى الدّيمقراطية الاجتماعية سواء كانت ذات منحى يساري أو ديمقراطي تقدّمي مثلا؟

قيس سعيّد وطني- قومي له ميول اسلامية في جوانب معينة (مسألة الميراث مثلا) ولكن له ميول ديمقراطية اجتماعية – وهي لا تعادي الرأسمالية - في علاقة بدور الدّولة الاجتماعي ...وله تصوّرات ديمقراطية قريبة من اليسار السياسي (من روسّو ولكن من الفوضوية و المجالسية). فلم تكتفي برسم همزة الوصل بين القومية والاسلامويّة ولا تنتبه لباقي الهمزات مع الليبيرالية الاجتماعية واليسار؟

هل مكانة الموقف من نقطة الميراث ومن المثليين أكبر وزنا في برنامج سياسي ما من الموقف من الدور الاجتماعي للدولة وشكل السلطة حتى نحدّد هويّة صاحب البرنامج بالنقاط الأولى وليس بالثانية؟ وأنا هنا أناقش وزن النّقاط في البرامج لتحديد الهويّة السياسية لأصحابها بعيدا عن الموقف القيمي منها وبعيدا عن دعاة تأجيل بعض المطالب أو غيرها.

يصبح السّؤال اذن: ولم لا نقول انّ قيس سعيّد هو أيضا "ديمقراطي اجتماعي – متطابق" وحتّى " يساري –متطابق " لأنّه تحديدا يتموقع في الوسط السياسي و يأخذ من كلّ شيء بطرف فيحاول المزج بين القومية العربية و الاسلام و الليبيراية الاجتماعية و اليسار باحثا عمّا عبّر عنه رضا لينين 'الكتلة التاريخية ' ذات الأصل المصطلحي الغرامشي؟

ثمّ هل يمكن لقومي محافظ ذي ميول اسلامويّة أن يقول في خطاب تولّيه الرّئاسة بعد المقطع حول القضيّة الفلسطينيّة ما نصّه :

"... إنّنا نتطلّع إلى عالم جديد وإلى المساهمة في صناعة تاريخ جديد ، يُغلّب فيه البُعد الإنساني على سائر الأبعاد الأخرى. "

أليس هذا موقفا أنسنيّا بامتياز ويتجاوز كل فكر قومي محافظ و/أو اسلامي محافظ؟

ولتوضيح السّؤال أعلاه وتبسيطه ألجأ الى الرّسم: قيس سعيّد رمادي. ما الذي يجعلك تعتبره أقرب الى السّواد منه الى البياض؟ لم يغلب سواد الموقف من مسألة الميراث والمثليّين عندك علىبياض الموقف الوطني /القومي والموقف من دور الدولة الاجتماعي مثلا؟

3-الثورات المحافظة و النازية و الفاشيّة... وقيس سعيّد :

لمتني في ردّك على تقويلك – أو فهمك خطئا- ما مفاده كونك لا تفرّق بين الثورة المحافظة والفاشيّة والاشتراكية القومية النّازيّة، الخ. ووضّحت كون الثورة المحافظة يمكن أن تأخذ أشكالا مختلفة. وفي الواقع أنا لمتك لأنّك لم تقدّم سوى تعميما قائما على رفض البرلمانية والتعدّدية للحديث عن الثورة المحافظة ولم توضّح الفروقات بين تلك الأشكال من ناحية ثانية.

وها انّك الآن لم تجبني على لومي الأوّل الذي كنت أنت لخّصته في الفقرة الأخيرة من مقالك في 'الهوفينغتن- بوسط' ووضّحت الأمور نسبيّا في ما يتعلّق باللّوم الثاني. ولكن حتّى هنا يبقى مشكل.

ذكرت كون أشكال الثورة المحافظة يمكن أن تأخذ صيغا متنوّعة تعتمد على القومية والمذهبيّة والاثنيّة والقبليّة، الخ.، ثمّ وضعت شرطا للحديث عن الثّورة المحافظة رابطا ايّاه بقيس سعيّد قائلا:

"le projet éventuel de Kaïs Saied (qu’on ne connait pas) peut en être une variante, différente de celles d’Erdogan ou de la République Islamique d’Iran, etc. La condition pour cela, c’est de lier conservatisme à action révolutionnaire pour renverser l’ordre en place et le remplacer par un ordre fondé sur le projet de rétablir les valeurs traditionnelles." C’est pourquoi les monarchies rétrogrades de la Presqu’île arabique n’en font pas partie malgré leur caractère conservateur..."

طيّب، إذا كنّا لا نعرف المشروع المحتمل لقيس سعيّد فلماذا نصرّ على تقديمه - في فرضيّة- كتنويع مختلف محتمل على مشاريع أردوغان والجمهوريّة الاسلاميّة الايرانيّة ... ونميّزه على الممالك الرّجعيّة لشبه الجزيرة العربيّة – في العالم الاسلامي – ولا نقدّمه كتنويع مختلف محتمل أيضا لمشاريع عبدالنّاصر والقذّافي وبومدين وصدّام حسين وحافظ الأسد مثلا؟

هل لأنّه محافظ في مسألة الميراث ومسألة المثليين جنسيّا؟

وهل هؤلاء الذين ذكرناهم لم يكونوا محافظين في تلك النقاط؟ ألم يحافظوا كلّهم على تعدّد الزوجات اصلا فما بالك بالمساواة في الميراث؟ وألم يعتمد بعضهم حتّى على اعتبارات طائفيّة وعشائريّة في سوريا والعراق تحديدا...ويمكن حتّى اضافة نفس الشيء في اليمن الجنوبي السّابق.

و من ناحية مقابلة، لتنسيب الفرضيّة أيضا، ألا يوافق أردوغان تركيا الآن على قانون ميراث يساوي بين المرأة و الرّجل كما يدلّ عليه قانون المواريث في تركيا (7) ؟ فهل سيمنع ذلك مثلا من اعتبار أردوغان محافظا؟

وألم يكتب راشد الغنّوشي نفسه كونه، مثلا، لا يجب على الدّولة أن تتدخّل في ما يحدث في غرف نوم التونسيين وحياتهم الجنسية طالما يتمّ ذلك في الفضاء الخاصّ وليس العامّ (8)؟ فهل سيمنع ذلك من اعتبار الغنّوشي محافظا؟

ما أردت قوله هنا هو، من ناحية أولى، ضرورة التمييز بين المشروع المجتمعي العام لقيس سعيّد ومحافظته الجزئيّة في هذه النّقطة أو تلك، والتي قد يتفق فيها مع بعض الاسلاميين وقد يختلف مع غيرهم من الاسلاميين أنفسهم الى درجة أن يكونوا أكثر اصلاحيّة منه، ظاهرا على الأقلّ في تونس.

ومن ناحية ثانية، تجنّب اجراء قياسات مسقطة تبدأ بالاقتباس من هتلر – كان من الممكن اقتباس نفس الشيء من ماركس وبرودون ولينين وغيرهم- للحديث عن استغلال الدّيمقراطية والحرية والبرلمانية للقضاء عليها وتجنّب التّساهل في التلميح لسهولة تحقّق الفرضيّة. وهذا مثال:

لقد اشترطت بنفسك في الفقرة أعلاه كونه لا يمكن الحديث عن ثورة محافظة الا بالجمع بين المحافظة والنشاط الثوري لقلب النظام وتعويضه بآخر يتأسّس على اعادة القيم المحافظة. وسؤالي هو التّالي:

هل يمكن أن ينطبق هذا على صاحب هذا الكلام (مقتطفات من خطاب قيس سعيّد يوم القسم وتولّي المهامّ):

" إنّ ما يعيشه التونسيون والتونسيات اليوم أذهل العالم بأسره لأنّ الشعب استنبط طرقا جديدة في احترام كامل للشّرعيّة، لم يسبقه إليها أحد، هو ارتفاع شاهق غير مسبوق في التاريخ، بل هي ثورة حقيقية بمفهوم جديد لأنّ الثورات تقوم كما هو مألوف ضدّ الشرعيّة ولكن ما حصل في تونس هو ثورة حقيقيّة بأدوات الشرعيّة ذاتها، ثمّ هي ثورة ثقافيّة غير مسبوقة أيضا..."

ثمّ:

" ليس هناك ما يدعو إلى توجيه رسائل لأنّه تمّ توجيهها من منابر عدّة وكانت مضمونة الوصول، إلاّ لمن أراد عدم تسلّمها بل أعرضها للسّمع أو أراد تشويه الفحوى والمضمون ، ليكن الجميع واثقا أنّه لا مجال لأيّ عمل خارج إطار القانون، وليكن الجميع على يقين أنّ الحرّية التي دفع شعبنا ثمنها غاليا من أجل الوصول إليها، وممارستها في إطار الشرعيّة، لن يقدر أحد على سلبه إيّاها تحت أيّ ذريعة، أو تحت أيّ مسمّى، ومن كان يهزّه الحنين للعودة إلى الوراء فهو يلهث وراء سراب ويسير ضدّ مجرى التاريخ، ولتطمئنّ القلوب أيضا، في هذا السياق أنّه لا مجال أيضا للمساس بحقوق المرأة وما أحوج المرأة إلى مزيد دعم حقوقها، وخاصّة منها الإقتصاديّة و الإجتماعيّة ، فهي تكابد في البيوت وفي المعامل وفي المكاتب وفي الحقول، وكرامة الوطن هي من كرامة مواطنيه ومواطناته على السّواء، إنّ شعبنا العظيم الذي يتطلّع إلى الحرّية، يتطلّع بنفس القوّة والعزم إلى العدل..."

ثمّ:

" ومن الرسائل التي يتّجه توجيهها في هذا الموقف ومن هذا المكان بالرغم من أنه ليس هناك ما يدعو إلى إرسالها ، إثر كلّ انتخابات لأنّ تونس دولة مستمرّة بمؤسّساتها، لا بـالأشخاص الذين يتولون إدارتها، وأنّ الدولة التونسيّة ملتزمة بكلّ معاهداتها الدوليّة، وإن كان من حقّها أن تطالب بتطويرها في الإتّجاه الذي يراعي مصالح شعبنا ومصالح كلّ الأطراف، وأهمّ من المعاهدات المكتوبة والبنود والفصول هو التفاهم بين الأمم والشعوب، من أجل الإنسانيّة جمعاء..."

وأخيرا:

" والمسؤوليّة الأولى لرئيس الدّولة هو أن يكون دائما رمزا لوحدتها ، ضامنا لـ إستقلاليتها ولاستمراريتها، وساهرا على إحترام دستورها، عليه أن يكون جامعا للجميعوعليه أن يعلو فوق كلّ الصراعات الظرفيّة والضيّقة ، ولا فضل لأحد على أحد، إلاّ بحبّ هذا الوطن العزيز والاستجابة لمطالب شعبنا حتى نسلّمه الرّاية الوطنيّة إلى أجيال سوف تأتي من بعدنا، لترفعها أعلى وأعلى تحت كلّ سماء ولنجلس معا في مقعد صدق في هذه الحياة الدّنيا، لنجلس معا في مقعد صدق عند مليك مقتدر والسلام عليكم ورحمة الله. "

طبعا لا يجب أن نكتفي لا بتصديق الخطاب ولا حتّى بتحليله ويجب النظر الى الأفعال وانتظار وضوح المشهد والا جانبنا الصّواب. ولكن في المقابل فانّ التسرّع في القياس بين ما حصل في تونس وصعود هتلر بالديمقراطية الى السلطة ثمّ انقلابه عليها يعتبر تسرّعا تحليليّا وسياسيّا رغم تفهّم الرّغبة في الوقاية قبل أن تقع الفأس في الرّأس كما يقال.

4- كارل شميت و الشيوعية و النّازيّة ... و عين على قيس سعيّد :

كتب ردّا عليّ في الفقرة الخامسة بالفرنسية ما يلي:

"Carl Schmitt n’a jamais été pour le communisme ou le socialisme. Il a parlé de leur supériorité par rapport à la démocratie libérale parlementaire mais il a toujours marqué sa préférence pour le fascisme puis pour l’Etat nazi. Ensuite, il est revenu à une version catholique honteuse de la révolution conservatrice."

لا خلاف بيننا هنا حول كارل شميت كشخص. فقد كفاني مقال واحد في ويكيبيديا كنت ذكرته في مقالي السّابق. لكنّ اثارتي للمسألة كانت بسبب فكرة 'تفوّق الشيوعية –والفاشية- على البرلمانية ' التي نتفق حولها عنده. وأنا استعملت ذلك لأسألك عن ضرورة التّمييز بين نقد الديمقراطية البرلمانية والتعدّدية من اليمين ونقدهما من اليسار ولم تجبني الى الآن.

وما يهمّني الآن في هذه النقطة هو قيس سعيّد. هل نقده للبرلمانية يدخل بالضرورة في مشروع 'الثورة المحافظة' لمجرّد كونه يعبّر عن بعض المواقف المحافظة الفعلية –ولكن الجزئيّة- من مسألة المساواة في الميراث ومسألة المثليّين؟

رجب طيّب أردوغان يرأس دولة تركيا حيث يتساوى الميراث بين الرجال والنساء وحيث حقوق المثليين فيها أكبر من تونس بكثير وحيث الفصل اللائكي بين الدولة والدّين وحيث البرلمانيّة مضمونة عموما رغم أنفه، فهل هو لم يعد "ثوريا محافظا"؟

لينين كان يرأس دولة لا تعترف أصلا بحق الملكية –لوسائل الانتاج تحديدا- حتى نتحدّث عن الميراث ولا تعترف بحقوق المثليين وتمارس 'لائكية' الحادية ولا تعترف بالبرلمانية تماما، فهل كان على عكس أردوغان " ثوريّا محافظا "؟

فهل يكفي رفض قيس سعيّد المحافظ للمساواة في الميراث وتبرّمه المحافظ من المثليّة واستعداده للاستفادة من الشريعة في التشريع ونقده للبرلمانيّة أن نعتبرمشروعه–الذي قلت اننا نجهله بعد- بكامله "ثوريّا محافظا " كمشروع كارل شميت والنّازيّة في حين أن عبد الناصر والقذافي وبن بلّة وبومدين وصدّام حسين وحافظ الأسد كانوا 'مثل' قيس سعيّد هنا؟

وهنا أعود الى نقطة أعتبرها أهمّ في النّقاش كنت ذكرتها لك ولكنّك لم تجبني عنها. في محاضرته "الاسلام دينها (9) " تمايز قيس سعيّد مع الاسلام السياسي وحتّى مع الاسلام الرّسمي التونسي في خصوص التصريح بضرورة اقرار عبارة "الاسلام دينها " في الدستور التونسي جذريّا. كما قام بتحليل تاريخية اندراج العبارة و ما يشبهها في الدساتير التركية و الايرانية و المصرية ... القديمة و قال انّ ذلك كان بطلب من قوى خارجية وداخلية مسترابة . وسخر من عبارة ' الاسلام دينها' - من ضمير الدّولة 'ها' - لأنّ الدولة بالنسبة له كيان معنوي لا يمكنه أن يكون مسلما أو مسيحيا أو ملحدا ولا أن يصلّي أو يحجّ أو يتوضّأ ليصل الى فكرة كون الدّين لا يمكن أن يكون سوى دينا للأمّة أو الشعب أو لمعتنقيه ولا معنى لاعتباره مطلقا دين الدّولة.

انّ هذه المحاضرة تسجّل نقطة قطيعة تامّة مع الفكر الدستوري للاسلام السياسي وحتى ' الاسلام الحداثي ' البورقيبي، ولكن كذلك مع الفكر الدستوري العلماني /اللائكي (المطالب بالفصل) والفكر الدستوري الشيوعي والفوضوي الذي قد يدعو الى اللائكية فكرا ولكن يمارس الالحاديّة عملا.

وان كانت المحاضرة لا تعني بالتالي العلمنة الدستورية –بالمعنى اللائكي خاصّة- ولا ترفض الاستفادة من الشريعة في التشريع –وهو موضوع لم يتعرّض له قيس سعيّد في المحاضرة - فانّها مثلا ركّزت على ضرورة اضافة مقصد الحرّية لمقاصد الاسلام كما طالب ذلك الخضر حسين والعلاّمة بن عاشور.

هذا يعني كون تصوّر قيس سعيّد هنا هو تصوّر دستوري خاصّ نسبيّا – يمكن أن نختلف معه أو نتفق- يجب تمييزه عن تصوّر الاسلام السياسي ولا يجب المصادرة المسبقة واعتباره –كمشروع - معبّرا بكامله - سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ودوليّا - عن "الثورة المحافظة".

وانّ اصرار قيس سعيّد على اضافة مقصد الحرية لباقي المقاصد الأصلية للإسلام كما ذكرتها نظرية المقاصد الخمس (مقاصد حماية الدّين والنّفس والنّسل والمال والعرض) ينسّب –على الأقلّ- فرضيّة 'الثورة المحافظة' الاسلاميّة القائمة، من بين ما هي قائمة عليه- على رفض الحرّيّة تحديدا.

وطبعا هذا لا يعني كون قيس سعيّد الذي يسخر من عبارة 'الاسلام دينها' ليكتفي بالحديث عن 'دين الأمّة' هو غير مستعدّ للاستفادة من الشريعة في التشريع. ولكن هنا لا بدّ من استيضاح نقاط هامّة قبل الحكم له أو عليه: ما تعريفه وتأويله للشريعة؟ ما حجم الاستفادة منها؟ ما علاقة تلك الاستفادة بحقوق وحرّيات الانسان الكونيّة؟، الخ.، وهنا يبقى البحث مفتوحا.

تذكير:

في مقالك في الهوفينغتن –بوسط كتبت كون قيس سعيّد له قراءة للفصل الأوّل من الدستور التونسي جعلته يرفض التنديد بالإرهاب والجهاديين بحجة كونهم من نتاج النظام العالمي وأدواته في تونس. قلت تحديدا:

Par ailleurs, il a donné une lecture de l’article 1er de la Constitution allant dans le sens du refus de condamner le terrorisme et les jihadistes, prétextant qu’ils ne sont que les produits du système dominant à l’échelle internationale et ses instruments en Tunisie et dans le monde arabe."

أنا بصراحة لا أعرف مصدر تحليلك هذا. فالمحاضرة التي ألقاها في سوسة بعنوان 'الاسلام دينها' لا تحتوي على هذا. ثم أكتفي بتذكيرك بما يلي:

- مقتطف من خطاب قيس سعيّد في خطاب التنصيب :

" وليستحضر الجميع في كلّ آن وحين، شهداء الثورة وجرحاها، وكلّ الشهداء الذّين ضحوا بأنفسهم فداء لهذا الوطن ومازال العلم المُفدّى عند ذويهم مخضّبا بدمائهم الطاهرة الزكيّة. لقد آثروا الموت على أن يعيشوا حياة الظلم والهوان. آثروا الموت لوضع حدّ لإهدار المال العام وشبكات الفساد. ومن الأمانات وليست أقلّها، الوقوف متّحدين في مواجهة الإرهاب والقضاء على كلّ أسبابه. انّ رصاصة واحدة من إرهابي ستُقابل بوابل من الرصاص الذي لا يحدّه حدّ ولا إحصاء. وتحيّة متجدّدة لقوّاتنا المسلّحة العسكريّة ولقوّات الأمن الداخلي، وللدّيوانة، الذين يواجهون بالحديد والنار الإرهاب وكلّ أنواع الجريمة وارتفعت أرواح العديد منهم إلى الرفيق الأعلى، في السموات العلى."

- عزم قيس سعيّد على تكوين صندوق يضمن الاستحقاقات المالية و المعنوية للشهداء المدنيين و الأمنيين و العسكريين و للجرحى سواء منهم شهداء الثورة أو من سقطوا في مواجهة الارهاب.

5- كارل شميت و قيس سعيّد و "الاختصاص الدّستوري"...ورفض التعدّديّة :

قلت لي في النقطة الخامسة ما يلي:

" Je me suis demandé si Kaïs Saied s’est inspiré de Carl Schmitt sur la base de leur spécialité commune – le droit constitutionnel -, de leur conservatisme, de leur rejet du parlementarisme et de leur condamnation du pluralisme : mais je suis resté au niveau de l’interrogation et il n’y a aucune affirmation de ma part du lien doctrinal entre les deux."

ثمّ ذكرت كونه على المختصّ في علم أن يطّلع على أعلامه وذكرتنا أنا وأنت في علاقة بعلم الاجتماع و بالاسلامولوجيا و أنهيت قائلا:

" Si cela ne choque pas certains, moi j’en suis interloqué."

أنا طبعا لا أعرف ان كان سعيّد اطّلع على فكر شميت أم لا. ولكنّني احترزت على غير هذه المسألة. لقد بدت لي ملاحظتك في مقال 'الهوفينغتن بوسط ' من قبيل المثل التونسي العامّي " قاتلك قاتلك " بمعنى، ان كان سعيّد اطلّع على شميت فذلك سيدعّم الفرضيّة بكونه 'ثوريا محافظا' على الطريقة النّازيّة. وان كان لم يطّلع فانه سوف يبيّن كونه جاهلا من ناحية وسيسهّل احتمال تكراره لأفكار نازيّة وهو جاهل بكونها نازيّة ومعتقدا كونها من بنات أفكاره مثلا.

ولكن لنكن صريحين، وهذا ما شعرت به واعذرني ان أخطأت، لقد رأيت في ما كتبت صدى غير مباشر لسخرية انتشرت عند كثير من المثقفين من قيس سعيّد الأستاذ الذي لم يقدّم أطروحة ولم يكتب كثيرا. وما أثارني هنا هو كونه لا بورقيبة ولا فؤاد المبزّع ولا الباجي قايد السبسي ولا محمّد النّاصر قيل فيهم هذا بينما اكتشف 'الجميع' هذه النقيصة في قيس سعيّد. طبعا أنا أتفهّم الأمر لأنّه جامعي وهم لم يكونوا كذلك، ولكن ما يهمّني هنا هو قيس سعيّد السّياسي فالرّئيس وليس الجامعي.

ثمّ انّ الجامعيّين لا يعرفون بالضرورة كلّ من كتب في اختصاصهم في العالم وقد لا يعرفون أسماء أ ولا يقرؤون لها ظنّا منهم انّها تجاوزها الزّمن. وقد يكون سعيّد –مثلا- يعرف اسم كارل شميت ولم يقرأ له حرفا تبرّما من قراءة نازي اعتبر مشروعه جريمة. وأنت تعرف أكثر منّي كون هنالك 'بسيكولوجيا مطالعة' تجعل خيرة القرّاء في العالم لا ينتبهون الى أسماء وضعوها في لحظة ما في 'زاوية ميّتة' من مسارهم الفكري ولا يعودون اليها الا للضّرورة القصوى.

ثمّ انّ مثال كارل شميت نفسه يدلّ على أن امتلاك أطروحة دكتوراه ونشر أطنان من الكتب لم يمنعه من مسانده هتلر الذي لا يعرف له سواه كتاب سيرة 'كفاحي'. ولا داعي لذكر عشرات الدكاترة والكتاب ممّن خدموا بن علي عندنا ولم تشفع شهائدهم وكتبهم لمن ساندوا من المرشّحين الذين هزمهم قيس سعيّد.

أمّا باقي الفقرة أعلاه – بعد نقطة الاختصاص الدستوري- فتذكر ما تراه أنت اتّفاقا بين الرّجلين في " المحافظة ورفض البرلمانية وادانة التعدّديّة " دون الرّبط الفكري المباشر بين الرّجلين والبقاء في مستوى التساؤل.

لقد تعرّضت سابقا وأعلاه الى مسألتي المحافظة ورفض البرلمانية وما يهمّني هنا هو مسألة التعدّديّة السياسيّة.

- الأحزاب :

لقد صرّح قيس سعيد بفكرتين كبيرتين في هذا الصّدد هما كونه مستقلّا وسيبقى دائما مستقلاّ وكونه يرى أن الأحزاب أشكال من التنظيم تجاوزها الزمن. ولا أعتقد كون كلّ المستقلين هم بالضرورة أعداء للتعدّدية الحزبيّة من ناحية. ولا أعتقد كون كلّ من لا يؤمن فكريا وسياسيا بالأحزاب سوف يمنعها بالضرورة ايضا.

بمعنى آخر، من حقّ قيس سعيّد أن يكون مستقلاّ وأن يبقى مستقلاّ ومن حقّه أن يؤمن كون الأحزاب تجاوزها الزّمن ولم تعد تصلح كشكل تنظيمي. ولكن ليس من حقّه اجبار الجميع على أن يكونوا مستقلّين وعلى تبنّي فكرته عن الأحزاب. فهل هنالك ما يبدو من فكر وممارسة قيس سعيّد يؤكّد كونه سيمارس ما ليس من حقّه؟

في مستوى التّصريحات، لم يقل يوما انّه سيمنع الأحزاب السياسية من الوجود. وفي مستوى الممارسة ألقى الرّجل قسمه وخطابه أمام الأحزاب في البرلمان وقال في خطابه شاكرا من صوّت لمنافسيه من المترشّحين، وأغلبهم من مرشّحي أحزاب: " شكرا أيضا لمن أراد اختيار طريق أخرى، وانتخب بكلّ حريّة ..." وهو له علاقات متنوّعة بتنظيمات الى درجة انّه يتّهم من قبل البعض بعلاقات مع حزب التحرير ومن قبل البعض الآخر بعلاقته بقوى تونس الحرّة لرضا لينين. وهو يقابل أهمّ الأحزاب السياسية منذ تولّيه الرّئاسة في مسار المشاورات حول التشكيل الحكومي ولم يشكُ أحد من الأحزاب الى اليوم من سلوك مخالف لروحيّة التعدّديّة الحزبيّة من جانبه.

-المنظمات :

قابل قيس سعيّد قيادة اتّحاد العام التونسي للشغل والاتحاد الوطني للمرأة (وربّما غيرهما فلا علم لي) وقال عن المنظّمات الوطنيّة في خطاب تولّي الرّئاسة ما يلي:

" كما ليس هناك من شكّ على الإطلاق بأنّ المنظّمات الوطنيّة يمكن أن تكون قوّة إقتراح، فوطنيّة أعضائها لا يشوبها ريْب، وقدرتهم على تقديم الحلول وفتح آفاق جديدة أشدّ وأقوى لتجاوز كلّ الأزمات."

-الجمعيات

لم يصرّح قيس سعيّد مرّة واحدة انّه ضدّ حق الناس في تكوين الجمعيّات. وان كان شكّك في صنف من الجمعيّات (الخاصّة بالمثليين مثلا) من منطلق كونها صنيعة غربية (وهو موقف غير مقبول كمبدأ )فانّه لا يعني بذلك كونه ضدّ تعدّد الجمعيّات عموما. نحن جميعا نسمع هنا وهناك انتقادات لجمعيات بعينها كونها صنيعة غربية أو سعودية أو قطرية أو تركيّة، الخ.، ونعرف أن أصحاب تلك الانتقادات لا يرفضون حقّ المواطنين في تكوين جمعيات بل ينقدون أمثلة منها لسبب من الأسباب الذي يرونه هم ولا يراه غيرهم.

انّ الموقف العامّ لقيس سعيّد، وان اختلفنا معه، لا يمكن الى حدّ الآن أن يسمح باستنتاج كون الرّجل يعادي التّعدّدية الحزبية و المنظماتية و الجمعياتية، فلم استسهال مقارنته بمفكّر نازي ككارل شميت في هذه المسألة أيضا؟

6- الرأسمالية و الديمقراطية و نهاية التاريخ :

لو لم يكن هنالك حديث عن الشيوعية ما كنت ذكرت هذه النقطة وهذا ليس لأنّني شيوعي –رغم كوني أعتبر نفسي اشتراكيا يدعو الى تجاوز الرأسماليّة- بل لأنّ الحوار ارتبط بأشكال مختلفة من الليبيرالية الاقتصادية وصولا الى الليبيرالية الجديدة.

ولو أنّك لم تضع في آخر مقالك مقياسا للحكم يتمثّل في البرلمانية والتعدّديّة كشرط للحديث عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعيّة ما كنت ذكرت ما ذكرت.

لقد ظهر لي – والآن أنت توضّح الأمر – انّك اكتفيت بنقد النيوليبيرالية من ناحية و 'الثورة المحافظة' من ناحية ثانية. والتأليف بين النقدين في مقالك لا يسمح سوى بالدّفاع عن رأسمالية ليبيرالية اجتماعية قديمة – غير المحافظة وغير الجديدة – وعن البرلمانية والتعدّديّة. وقد كان مقالك الأصلي لا يخرج عن هذا الإطار، ولذلك كان يوحي للقارئ الذي هو أنا بفكرة ' نهاية التّاريخ ' التي، للمفارقة، أعرف انّك تنقدها سواء من بعض ما قرأت لك أو من بعض نقاشاتنا الخاصّة عندما التقينا. لعلّني رغبت في ا لحصول على كلّ شيء في مقال واحد كي لا يعتقد القارئ – الذي وضعت نفسي مكانه منهجيّا - بكونه لا تاريخ بعد الرأسمالية وبعد البرلمانية. أمّا الآن وقد كتبت كونه:

" Ceci étant, jusqu’ici, on n’a pas encore trouvé la recette pour dépasser la démocratie libérale par un système qui concilie les principes d’égalité et de liberté et les garanties au plus grand nombre. "

فانّي أحتفي مع من لم يقرأ سوى مقالك بهذه الاضافة ولكنّني أضيف أمرا أعتبره هامّا جدّا:

لا يجب انتظار الحصول على 'الوصفة'. وعلينا أن نجرّب من منطلقات أنسنيّة جديدة أعرف أنّك تسندها بالكتابة والنّضال. ولتكن واحدة من تجاربنا محاولة البحث عن طرق غير برلمانية كلاسيكية حتى لو لم نتجاوز بعد الرأسماليّة الاقتصاديّة ومحاولة البحث عن طرق غير رأسمالية كلاسيكيّة حتى لو لم نتجاوز البرلمانيّة السياسية ...عسى البديل ينضج. ولعلّ تجارب اليسار الجديد، الدّيكولونيالي والديمقراطي، تساعدنا.

7- الاشتراكيّون و الشيّوعيّون و الفاشيّة :

أتّفق معك تماما هنا اذ هنالك من اليساريين عموما من التحق بأشنع التجارب المحافظة على اختلاف أشكالها. كما أتفق معك انّه لا مستقبل لليسار اذا كرّر خطيئة رفض الحرّيّة و التّعدّديّة مكتفيا بالحقوق الاقتصادية و الاجتماعية كما حصل في كلّ في الاشتراكيات التاريخية.

ما جعلني أطرح الفكرة ليس هذا الذي نتّفق حوله في ايحائك بكون من صوّت لقيس سعيّد يمكن أن يندرج ضمن صنف من المثقّفين والمناضلين الذين خدموا الفاشيّة تاريخيّا. وبما أنّني أرى الفرضيّة الثوريّة المحافظة لقيس سعيّد نفسها ضعيفة، وبما أنّني صوتّ للرّجل ودعوت الى التّصويت اليه، وبما أنّني قرأت اسم أستاذي وصديقي بكّار غريب يذكر وهو ' الأكثر ديمقراطية من آلهة الديمقراطية أنفسهم ' والذي يشتغل منذ سنوات على أنطونيو غرامشي تحديدا، لم ترق لي الفكرة وبدا لي القياس مجحفا وظالما وانتابني بعض من غضب شخصي. وهذا بعض من اشكاليّة ' علم نفسيّة الكتابة ' كما تعرف. وبالمناسبة أغمز لك بكلّ صداقة ومحبّة: لقد شعرت بغضبك وتسرّعك الكامن في نصّك ذي النقاط التّسع الى درجة ارتكاب أخطاء رسم كثيرة انتبهت اليها وأنا الهزيل في لغة موليير مقارنة بك الى درجة أنّه حتّى تدخّل كلوديت وحبيبة لم يحلّ المشكل نهائيّا.

8- الديمقراطية الوطنية و الديمقراطية التابعة :

أنا لا أتّهمك بالنّظر بعين الرّضا للديمقراطية التابعة مقارنة بالدّيمقراطية الوطنيّة. هذا لا يمكن أن يحصل. ما كتبته أنا نابع من تعميمك الذي أراه مبالغا فيه باعتبار قيس سعيّد معاديا للتعدّديّة لمجرّد كونه اعتبر بعض التنظيمات صنيعة أجنبيّة غربيّة تحديدا. وذكري للتنظيمات صنيعة قطر وتركيا هدفه منهجي يريد النظر الى المسألة من الزاوية الأخرى للإجابة عن السؤال التالي:

هل يحقّ لإسلامي تونسي مثلا اتهامي أو اتّهامك بمعاداة التعدّديّة الحزبية والمنظماتية والجمعياتية فقط لأنّني أو لأنّك اعتبرت جمعية ما صنيعة قطرية أو تركية أو سعوديّة أو ايرانيّة.

هذا كلّ ما في الأمر وهو ليس شخصيّا بل منهجيّ، وسبب اعتقادي كونك تنطلق كثيرا من أمثلة جزئيّة لتتسرّع في الحكم على ' مشروع ' أنت نفسك تقول انّه لا يزال ضبابيا - ان لم يكن مجهولا- في بعض جوانبه. وما هدفي سوى دفعك لنقاش ما يمكن أن ينسّب من تسرّعك في اثبات فرضيّتك نظرا لقناعتي كون الظاهرة أعقد ممّا صوّرتها من ناحية و، الى حدّ الآن، أقرب الى الوسط السياسي منها الى اليمين من ناحية ثانية.

خاتمة : الكتابة تحت وطأة النّماذج ووطأة الشعور بالخوف على تونس .

أعتقد يا عزيزي أنّه علينا –في الوطن كما في الهجرة- أن ننتبه الى خطر الكتابة تحت وطأة النماذج سواء ما هو نظري - منهجي منها أو ما هو واقعي – تاريخي لأنّه لا هذا ولا ذلك يتجاوز صفته 'كنموذج مثالي' تحليلي ولا يمكن أبدا أن يتحوّل الى مثال نموذجي قيمي.

كما أعتقد أنّه مثلما هنالك غياب للوصفة الجديدة البديلة للرأسماليّة (نظريا وعمليّا) فهنالك غياب للوصفة البديلة للكولونيالية ونتائجها على تونس في ذهن الباحث وفي المجتمع رغم تجارب الكتابة الديكولونيالية المراكمة.

نحن اذن في مرحلة تجريب معرفي وأنسني يكتب للأمل على قاعدة مكاسب في المعرفة والمجتمع ولكن على قاعدة خيبات ايضا فيهما.

من ناحية ثانية، لعل الخوف على تونس يدفع بعضنا الى المبالغة في التحذير خوفا من وقوع المحظور –كما قد يكون حالك- ولعلّ نفس الخوف يدفع البعض الآخر لمحاولة البحث عن نقطة ضوء في العتمة حتّى لو كانت ضعيفة حتّى لا يفقد الأمل – كما قد يكون حالي. الوضعيّة رماديّة فعلا فلنساهم ليس في جعلها بيضاء أو سوداء بل في جعلها ملوّنة قدر الامكان. ولعلّ الحقيقة - بل بالتّأكيد إذا أخذت في كلّيتها - تتجاوز الجميع. ومن المهمّ جدّا وقتها أن نحاول التفكير والنقاش والتّعايش داخل الوطن وخارجه كأصدقاء علم ورفاق أنسنة مهما اختلفنا، بعيدا عن السّجال خاصّة، حتّى لو اعتمدنا مبادئ " لا حياء في الدّين " و" لا مجاملة في العلم " و" لا خلابة في البيعة " القاسية كي نتقدّم.

الى لقاء ودمت شقيقا وصديقا وأستاذا لي مهما اختلفنا بل وخاصّة ان اختلفنا.


الهوامش:

1-
https://www.youtube.com/watch?v=0nN0l5p5XPc

2- جريدة الشعب، الخميس 26 سبتمبر 2019، العدد 1557، ص .5
حوار مع السيد قيس سعيد ب #جريدة_الشعب ليوم الخميس 26 سبتمبر 2019 على هامش زيارته للمقر المركزي للاتحاد العام التونسي للشغل

3-
https://www.youtube.com/watch?v=U5lcYsCdBrU&fbclid=IwAR3JWwxLGrAfJqYsRtMiYj5ANdEwNkPQP5gNPPd5achiIMVmagzcBsFF6dk

4-
Islamo-compatible
بمعنى قابليته للتوافق مع الاسلام السياسي في النزعة المحافظة .

5-
https://www.youtube.com/watch?v=CZcfC4qcAyw

6-
https://www.youtube.com/watch?v=AYuGdKoqfZ0

7- انظر:
https://orbi.uliege.be/bitstream/2268/126538/1/Droit%20turc%20(droit%20civil).pdf

8-
Olivier Ravanello , entretiens avec Rached Ghannouchi , au sujet de l’islam, Plon, Paris,2015,page 59.

9-
https://www.youtube.com/watch?v=5BsCocZZUbA&feature=share&fbclid=IwAR0zmGF9WLFPKsu-0jEfKPMaFU8wRFlY7MHHpnFWy2Jchvis6NJDDjywUC4

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات