في الموت حياة

Photo

مهما حاولنا أن نهزم الموت من منظور وضعي باختراع سرديّات الأعمال التي تخلّد ذكرانا بعد مماتنا وبقاء أسمائنا واعمالنا حيّة في ذاكرة الأجيال وفي قلوب محبّينا وأنصارنا، فلا نملك أن نهزم الموت باعتباره فناءً وانقطاعا عن الوجود، حيث لا يلحق ذواتنا من هذه الاعمال شيء لأنّنا في حكم المعدوم المنتفي وجودا.

وحدها الأديان هي التي تعطينا الأمل في حياة جديدة متجدّدة وتوفّر لنا الإحساس بعدم الانقطاع عن الوجود، بتصوّر حياة خلود بعد الموت وإلّا فهو الرّحيل النّهائيّ والانتقال إلى العدم الأبديّ.

بل يوفّر لك الدّين مجالا لتبني عالمك الأخروي وأنت في الدّنيا حيث تصحبك أعمالك الخيّرة إلى هناك لتؤنس وحشتك وتبدّد غربتك وتؤثّث معك آخرتك الدّائمة، بل تبقى بعض أعمالك الدّنيويّة قائمةً متواصلةً حتّى بعد انقطاعك عن الدّنيا مثل حساب جارِ لا ينقطع رصيده ولا يتوقّف.

ما الذي يمكن أن نهديه للميّت بعد وفاته؟ أو ما الذي يصله ممّا نفعله من أجله أو بسبب وفاته ؟
في المقاربة الوضعيّة نعبّر عن حزننا لفراقه، ونعلن حبّنا له، ونتنافس في إبراز قربنا منه، و نخلّد ذكراه لنقاوم النّسيان ، ولكن لا شيء من ذلك يصله أو يستفيده أو يحقّق له نفعا، وقد نوظّف وفاته في شؤوننا الدّنيويّة كاقتسام تركته الماديّة أو الرّمزيّة والمعنويّة والتنازع عليها ربّما، وقد نستعمله أداتيّا في مصالحنا الدّنيويّة القائمة على نسج سرديّات إثبات الذّات وشرعيّات الوجود والبقاء وصراع التّنافي ، ولكنّ الميّت محروم من كلّ ما نجنيه ونغنمه من وراء موته ماديّا كان أو معنويّا.

أمّا إن كنّا من الذين يؤمنون بحياة بعد الموت فإنّ الميّت كما تقرّر الأديان السّماويّة والبشريّة تصله وهو في عالمه البرزخي دعوات الصّادقين والمحبّين تؤنس وحشته وترجو له الرّحمة والمغفرة، فهو في عالم اليقظة الخارقة المتقدّمة المتّقدة وقد رُفِعَت عنه حجب المادّة وأستار الحواسّ،

كم هو مفزع ومرعب ومؤلم أن يتحوّل الإنسان في المنظور الوضعي إلى عدم وأن تتبخّر حياته الزّاخرة بالمشاعر والاعمال والعلاقات والمنجزات وتصبح هباءً وخواءً كأنّها سراب أو سديم، كم هو بائس هذا العقل الوضعانيّ الذي يقصر وجود الإنسان على سنوات عمر لا تعدو أن تكون طرفة عين في عمر الزّمان، ومن المفارقات أنّه يخترع أشكالا من الحيل لمخاتلة ما أنتجه هو نفسه من تصوّرات عدميّة " نصب تذكاريّة، ومناسبات دوريّة للذّكرى والاستذكار ..."

صدق المتصوّف الزّاهد يحيى بن معاذ الرّازي القائل:


الفَـــــــــــــوتُ أشدُّ من الموت

لأنّ الفوتَ انقطاعٌ عن الــــحقّ

والموتُ انقطاعٌ عن الـــــــخلق

ربّ اجعل خير أيّام المؤمنين بك يوم لقائك وأَحْسَنَ أعمالِهم خواتيمها، وكن بهم رؤوفا رحيما واجعل محبّيهم شفعاءَ لهم عندك وتقبّلهم في جوارك القبول الذي يليق بكرمك ولطفك وعفوك.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات