الجوادي وامرؤ القيس رحمه الله!

Photo

لست أدري من الذي أورثني هواية القراءة والولع الجنوني بالحكايات!!

ولكن الأكيد أن الوالدة رحمها الله تتحمل القسط الأكبر في تمكن هذه الهواية اللذيذة مني!! فقد كانت حكاءة بارعة، كما أنها كانت مغرمة بسماع الحكايات والقصص، وعندما صرت في الرابعة ابتدائي وأصبحت قادرا على قراءة أقاصيص المكتبة الخضراء، أصبحت تلزمني بأن أروي لها أحداث تلك الاقاصيص المشوقة.

كان الوالد يشتغل في ليبيا، وكنت أنا ابنها البكر، وفي ليالي الشتاء الباردة الطويلة، كانت "تشعل الكانون" وتضع فوقه البراد، وتخفت من ضوء "القازة" ،وتضع رأسي على ركبتها وتطالبني بأن أسرد لها أقصوصة مما قرأته في يومي، ولم تكن تقبل أي عذر، إما أن أحكي أو تغضب مني وتحرمني من كأس الشاي وما تيسر من أطايب، فكنت اضطر أحيانا إلي فبركة حكايات من هنا وهناك تنتهي في الغالب بموت البطل منتحرا في " قلتة" أو بإلقاء نفسه من فوق الجبل، لأضمن تفاعلها وتأثرها ورضاها عني.

في السنة الأولى ثانوي اطلعت بالصدفة على قصة حياة امرئ القيس، فتأثرت بها أيما تأثر، وتعاطفت مع مأساته تعاطفا كبيرا، ولعنت في سري قومه الذين لم يقفوا معه في محنته عندما قتل أبوه، وأعجبت بالخصوص بحكايته مع ابنة عمه عنيزة، يوم سرق ثيابها وثياب صويحباتها وهن يغتسلن ورفض رد ثيابهن إلا بخروج عنيزة عارية من الماء، وقد ألهب هذا المشهد خيالي سنوات طويلة وفعل في الافاعيل، وكلما اختليت بنفسي تخيلتها عارية تماما والماء يقطر من شعرها الأسود الفاحم، فتستعر في نفسي مشاعر ملتهبة قاسية.

وقد قررت أن أروي قصة امرئ القيس برمتها للوالدة، وقد نبهتها أنها قصة مختلفة ونادرة وأنه عليها أن ترشيني بعشاء فاخر لأقبل أن أحكيها لها!

هيأت رحمها الله العشاء، ووضعت براد الشاي فوق الكانون وطلبت مني أن أشرع في الحكي، ولكني سرعان ما اكتشفت أنه لا يمكن لي أن ألتزم بالأمانة التاريخية في رواية الأحداث، فلويت عنقها كما طاب لي: ادعيت لها ان اسم الشاعر هو قيس، وانه كان يعيش في الصحراء زمن الكفار وأن له ابنة عم تدعى علية عوض عنيزة، وانه كان يركب "كات كات باشي" عوض الجمل، وادعيت لها أن صاحبنا مر بدوار ابنة عمه ولما أراد محادثتها على انفراد تفطن له أبوه وكاد يقتله ب"المكحلة"، الحقيقة أنني ورطت نفسي في حكاية بلا رأس ولا ذنب ،فاختلقت نهاية سخيفة لأخرج من الورطة، وطلبت من الوالدة أن تسمح لي بالنوم لأنني متعب جدا،ولكنها نظرت لي نظرة تحمل معان كثيرة: موش قتلي كان يعيش في عهد الكفار؟ آخي كان عندهم "مكحلة"؟ وكانوا يركبوا "الكات كات باشي"؟ وأسقط في يدي!! وتيبس ريقي داخل حلقي، ولم أحر جوابا!! وأدركت مدى حمقي حين اعتقدت أن الوالدة الأمية من الممكن أن تصدق كل ما أختلقه من معلومات!! الحقيقة أنني كدت أخسر ثقتها في حكاياتي للأبد، وقد احتجت لجهد كبير ووقت أكبر لأجعلها تقبل من جديد على حكاياتي.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات