الجوادي ودكتور الأعصاب..

Photo

كاد دكتور الأعصاب يفقد صوابه لما أعلمته بكل بساطةِ الدنيا وقد كست ملامحي علامات الجد والصرامة:أنني قادم إليه ليبحث لي عن طريقة ما ليخلصني من دماغي وكل ما تراكم فيه من أفكار وأحلام وذكريات ومشاعر، وأن يستبدله بدماغ يؤدي فقط الوظائف الأساسية لإستمرار الحياة في حدها الأدنى!!

***

-اقعد أستاذ، قالها لي بتوتر ظاهر وهو يحملق في ويتشممني بحرص, وقد كست وجهه علامات الدهشة والصدمة, قبل أن يضيف:

-قالي ولد عمك اللي إنت تحب الفدلكة, أما والله هاك تشوف فيا مشغول برشة ووو…


جلستُ على الكرسي أمامه بكل هدوء.. أخرجت من جيبي عدة ورقات نقدية وضعتها على الطاولة، قبل أن أجيبه بإصرار قاطع:

- دكتور أنا مريض عادي, جيتك, باش تشوفلي حل للمخّ متاعي ,وهاني خلصتك!! اشنوة اللي مقلقك؟


اسقط في يد المسكين.. مسح العرق المتصبب على جبينه بكمه قبل أن يطلب من الممرضة أن تحكم إغلاق باب غرفة الكشف..


-طيب يا سيدي، أنا في خدمتك، قالها بنفاد صبر وبكل قرف الدنيا، معقولة تطلب مني أن استبدل لك دماغك القديم بدماغ جديد؟ هل نحن هنا في سوق الخردة أو في مستودع خدمات "بيجو"؟

-نعم ما سمعته صحيح يا دكتور، قلتها وأنا أحاول أن أتجنب النظر في وجهه الذي بدا لي أنه على وشك الإنفجار من شدة احمراره، دماغي القديمة لم تعد تنفعني في شيء!! أريد دماغا "على الزيرو" بدون أحلام، بدون طموح، بدون أوهام، بدون ذكريات، بدون ارتباط بالزمان أو المكان.. صمتت للحظات وأنا أتظاهر بالتأمل في إحدى اللوحات الجدارية وأسترق النظر للدكتور الذي أسلم أمره لله !! وبدا وكأنه يعيش كابوسا حقيقيا..


-أصلا يا دكتور أنا لم أستخدم عقلي في أي مناسبة ولا أرى أنني سأحتاج إليه يوما!! فالحكومة الرشيدة أبقاها الله، تفكر بالنيابة عنا، وهي تعرف وحدها ما يصلح لنا وما لا يصلح، وهي تختار لنا حتى ما يجب أن نأكل وما يجب أن نلبس، وفي أي وقت ننام وفي أي وقت نصحو!! وهي جازاها الله عنا كل خير لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، اختصرت العالم والمعارف والذكاء البشري في عقلها الراجح اليقظ الفطن!! فهي إن فكرت كان تفكيرها استشرافا وإن قررت كان قرارها نبوءة وإن أقدمت كان إقدامها توفيقا!! فما الفائدة بربّك من حمل هذه الدماغ الثقيلة بدون جدوى !! بأحلامها المحبطة، وآمالها البائسة، ونظرياتها الحالمة، ومشاعرها المتضاربة، وإحباطاطتها المتكررة،،، يا دكتور أنا أريد دماغا جديدة !! دماغا شُغلها الوحيد تأدية الوظائف الحيوية لا أكثر ولا أقل!!دماغا لا تحلم، لا تفكر، لا تحزن، ولا تتألم !!دماغا ترى الظلم فتحسبه عدلا.. والقهر فتقرأ بين ثناياه الرحمة.. والعبودية فتتأولها حرية.. والإستغلال فتبحث فيه عن المصلحة العامة!!


- طيب ،طيب، قالها لي الدكتور قبل أن يقف ويمد لي يده مسلما، ويضيف:

-شوف يا صاحبي: أنت تعاني من حالة معروفة عند الأطباء النفسانيين، وهذا ليس اختصاصي للأسف، سأمدك بهاتف أحد أصدقائي وسيجد حلا لمعضلتك !! ثم كتب رقما على وريقة أمامه، وأرجع لي أوراقي النقدية وفتح لي باب الخروج!!


قالت لي الممرضة التي أعترفت أنها سمعتْ أكثر مادار بيني وبين الدكتور من حديث:


- ولكن، هل أنت متأكد أنه يوجد داخل دماغك عقل؟ لو كنت كذلك لكنت الآن في السجن أو في القبر!! أصلا لو كان كان لك عقل ما احتملت حياتك كل هذه السنوات!!

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات