"هل كنت فعلاً غبيًا؟!"

عرف أغلب جيلي الحياة واهتدى إليها.. تلك الحياة "البلا وجع راس"! عرف التوقيت الصحيح ليغادر نزوات الأحلام الكبرى وبهجتها.. واستوى على العرش! ألتفت أنا، في آخر العمر، فلا أجد إلاّ مواقف دفعت ثمنها : كنت أختار التوقيت السيّء وأراهن دوما على الأحصنة الخاسرة وأقف في صفّ أهل الحقّ فلا ينتصرون!

كان جيلي يعيش مراهقته الجامحة و كنت ساعتها أتبع آثار والدي وأهلي في نظم القول لفظًا جزلاً ومعنى شريفًا تسرّب منهما الخُلق الوعرُ واستوطنتني المبادئ العظمى : العدل والكرامة والحرية!

كان جيلي يدخل أبوابًا لا أراها ويبني مستقبله وكنت مهووسًا بالكتب مأخوذًا بالمعنى وأصدّق مقالات الفلاسفة وقصائد الفحول.. كان جيلي يتوجّه علومًا صحيحة وكان أكبر همّي أن أكتب بيتًا في عظمة : إذا الشعب يومًا أراد الحياة..

عشت ثورة الخبز وصحت مع الصّائحين :" خبز وماء ومزالي لا".. فخذلني جماعة البرانيس المتيقظين و"رجعنا قبل الزيادات" ! دخلت الجامعة وهتفت بحماسة :" جامعة شعبية تعليم ديمقراطي ثقافة وطنية" فجُوزيت ب"رجيم معتوق".. كان جيلي يجتهد ساعتها في الدراسة وينجح و"يتبوّأ" منازله ويقدّم نفسه مواطنًا صالحًا للإستعمال.. فاستعملوه!

أدخل المهنة وأوّل ما فعلت في شهري الأوّل أنني انخرطت في نقابة التعليم ورفعت شعار :" لا وصاية على المُربّي " فخذلني الرّفاق ! كان جيلي يجتهد في الانتساب للتجمّع الدستوري ويتسرّب لمفاصل الدولة وكنت أجد حرجًا عظيمًا إذا اضطررت للمرور أمام لجنة التنسيق لعلّ بعضهم يتهمني بأننّي كنت هناك!

عشت صمتا مهينًا طوال عشرين عامًا وداخلني الخوف على أهلي .. كان جيلي ساعتها يبني دولة بن عليّ ويجني عسلاً من ريعها وكنت أطلب السلامة فقط !

جاءت الثورة من حيث لا أحد يعلم فبكيت وانحيت أمام عظمة الشعب وكتبت كمراهق عن الحب، والحرية، والكرامة، والديمقراطية.. فلم يبق أحد من جيلي إلاّ سبّني ولعنني و وجد فيّ مطعنًا.. فلم أعبأ ولا طمعت في شيء !

ثمّ جاء انقلاب قيس سعيّد فها أنا من جديد أختار المقاومة كأنّ كلّ الدروس التي مرّت بي لم تزدني إلاّ غباء..

اللهمّ لا تمتني قبله.. فقط حتى أشهد أنّي لم أكن غبيًا وأنّ "جيلي" لم يكن إلاّ انتهازيًا سافلاً.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات